احمد المهنا من الجيد أن يكون لدينا ولو شخص واحد بين الطبقة السياسية لا يتكلم اللغة السائدة في "الساحة السياسية". وهي لغة ليست سياسية ولا ثورية، وانما هي لغة ميليشيات. ومن حسن الحظ أن يكون الشخص الذي نقدر فيه تجنبه هذه اللغة، وترفعه عنها، هو نفسه رئيس الجمهورية جلال طالباني.
وقد بدا لي دائما أن طالباني ينتمي في السياسة الى نفس المدرسة التي ينتمي اليها الزعيم الراحل ياسر عرفات. وأذكر أن أبا عمار سئل يوما: هدفك واضح هل سرت اليه في طريق واضح؟ أجاب بأنه يسير في حقل ألغام. وظل الرجل يسلك كل طريق تجنب قضية شعبه الألغام، وتحشد لها الدعم والتأييد، حتى رفعها، بالتضافر مع نضالات رفاق دربه وأبناء شعبه، من رتبة قضية لجوء انساني، الى رتبة قضية تحرر وطني. وقد تميز بعقلانية شدت اليها حتى الثوار المتطرفين من أبناء شعبه. وهي عقلانية لم يحد عنها حيادا أوقعه وأوقع شعبه في مصيبة، الا عند الغزو العراقي للكويت. فيا لله وللعراق الذي "يخبل أكبر واحد"!عاش عرفات، حال طالباني اليوم تقريبا، وسط غابة ميليشيات. وكل واحدة منها تتبع دولة عربية او اثنتين. ولكنه لم يتبع احدا. كانت "استقلالية" منظمة التحرير بالنسبة له مسألة مبدأ. ومبدأ يؤمن به حقا، لأنه لمس أنه يخدم شعبه فعلا. ومن أجل "الاستقلالية" كان لسان حاله يقول "أسير مع الجميع وخطوتي وحدي". فسعى ما بوسعه الى إقامة علاقات متوازنة مع الجميع لضمان الاستقلالية. وكان على نحو خاص، أكبر من اسلوب الاتهام، الذي هو أظهر وجوه لغة الميليشيات. وما أشيع هذا الاسلوب في "الميليشاوية" العراقية اليوم. رجال وأيضا نساء جماعة يتهمون خصومهم ب"تزوير" تواقيع نواب. والخصوم يردون عليهم: أنتم تهددون نوابكم! الأولى تتهم الأخرى بتنفيذ مؤامرة سعودية قطرية. الأخرى ترد باتهام الأولى بالتبعية لإيران وأميركا. و"السياسة" في الحالين تلعب دور القانون. تتهم وتجرم على راحتها. ولم لا. أليست الميليشيا هي أكبر ظواهر الخروج على القانون؟الجانبان ميليشويان أيضا في اسلوب "التعبئة". ان لغة السياسة العقلانية تتكلم مع أناس أحرار. لا تريد اقناعهم أو الزامهم برأي، وانما تقدرهم وتجلهم، وتريد منهم أن يكونوا قناعاتهم وآراءهم بأنفسهم، كما يفعل الأفراد الأحرار. تعرض عليهم معرفة ليفكروا ويقرروا، ولا تملي عليهم عقيدة ليؤمنوا ويقاتلوا. أما زعماء الميليشيات فان "الناس" بالنسبة اليهم أكياس فارغة يعبئونها بالقنابل الكلامية او النارية، ثم يطلقونها على الخصوم في سوح الوغى، ان كانت هذه السوح صناديق اقتراع أو ميادين معارك. فالقتال، وليس أي أمر آخر غيره، هو شغل الميليشيات. والقتال يحتاج الى جنود يؤمرون وليس الى أفراد يفكرون.وبالجملة، اعزاءنا القراء، فان لغة الميليشيا هي كل كلام من الساسة يضغط على أعصابكم، ويقلقكم اشد القلق، ويرهقكم، ويشعركم بالإحتقان، ويحسسكم بأن الأخطار من حولكم في كل جانب، ويشيع اليأس في نفوسكم، وينسيكم العافية، ويسود عيشتكم. فاذا ما مرر ساسة على مسامعكم كلاما يؤدي الى كل هذه النتائج الوخيمة، فادعوا الى الله الرحمة منهم، وتأملوا بقواعد جديدة سليمة للعمل السياسي في بلادنا، ترفع مستوى اللغة، وتعيد لها الطيبة، والبهاء، والكرامة. ففي البدء كانت الكلمة.
أحاديث شفوية:لغة الميليشيات
نشر في: 4 يوليو, 2012: 06:38 م