ياسين طه حافظ(1-6) حين فكّرت بالكتابة في موضوع الشعر والسياسة، لم تكن أمامي أمثلة واضحة تفرز القصيدة السياسية عن قصيدة النقد الاجتماعي. ولا القصيدة التي تتبنى السياسة موضوعاً كلياً وتحتفظ بامتيازها الشعري.لدينا قصائد وطنية عامة وقصائد تهجو الحكومات وقصائد تحريضية وقصائد مما يسمى بقصائد الضد. لكن هل هذه قصائد سياسية؟ وكيف هي السياسة في الشعر؟ ثم هل تقع قصائد مدح الحكام والزعماء وهي تتضمن موالاة واعترافاً أو مبايعة، بالتعبير الإسلامي،
للحاكم أو الزعيم في دائرة القصائد السياسية وبهذا تكون قصيدة كعب بن زهير مثالاً قديماً لذلك؟ أم أن أمثلتنا يمكن أن تبدأ بمقاطع من شعر امرئ القيس وهي تشير إلى حدث سياسي، هو انتزاع الملك من أبيه وسعيه لاسترداده، حتى ليستعين بدولة مجاورة؟ هنا تصبح هاملت عملاً شعرياً سياسياً لان عمه اغتصب الملك من أبيه وثمة اتصالات بالنرويج وهي دولة اخرى.لكن من حيث الفن وفهمه، هل هذا شعر سياسي؟ تظل الإجابة غير مقنعة إلا إذا اتجهنا في البحث وجهة أخرى. فنبدأ من حقيقة أن القصيدة السياسية تتلبس المشاكل العامة والشاعر وسيط يدوّر الأحداث أو أن الأحداث تدور خلاله. فيكون دانتي في الكوميديا الإلهية شاعراً سياسياً، أعلن أحكامه وإداناته لخصومه السياسيين والفكريين وألقاهم في الجحيم. وان كلا من ييتس وجيمس جويس ومن بعد اليوت، قد أعطى مثلاً لذلك.هنا يمكن أن نجد بداية جيدة لكن، ييتس سُحِرَ بالسياسة ومع ذلك كره السياسيين والصحفيين. إذن بدأ الشعر يضيق بتدخل العنصر السياسي الخشن في نعومته. كتب ييتس كمّاً كبيراً للصحافة وصار سيناتوراً في مجلس حكومة ايرلندا الحرة في 1919 وكان احد مؤسسيها، لكنه بقي جمالياً من الطراز الأول، وفناناً أصيلاً في ابتداع القصيدة حتى قال عنه اليوت: "ييتس أعظم شاعر في عصرنا" وظلت قصيدة ييتس حتى اليوم مثالاً جمالياً وقد تضمنت افكاراً وإشارات سياسية.يقول ييتس: "إننا نجعل من خصومتنا مع الآخرين بلاغة ومن خصومتنا مع أنفسنا شعراً".وهو في أوج الاحتفال بانتصار ايرلندا، ظل ييتس الشاعر المبدع وهو احد زعماء الثورة. وهو ماض إلى مجلسها الثوري مرّ بعامل يرصف الحجارة في الطريق فبدأ هذا يهتف له وللثورة والثوريين فقال له ييتس: نعم، ولكنك ستظل ترصف الحجارة في الطريق! وكونه سيناتوراً، نائباً، لم يمنعه من القول:طغى الدم القاتم وفي كل مكانغاض احتفال البراءة الأفاضل يفتقدون الإيمان الواسعوالأراذل مفعمون بالهياج.هذا الكلام المتسامي، يخالف الرأي بأن غياب السياسة عن العمل يعني افتقاد الإحساس بالمضاد المزعج أو العام المرفوض مما يجعل القصيدة تفشل في العرض الجماهيري وتخسر في الذاتي الفني. في هذه القصيدة "مثلاً" رفض واضح للسوء وإبداع واضح في الشعر.لنا أمثلة جيدة في القصيدة التي تبنت جواً أو فكراً سياسياً، ولنا أمثلة في القصيدة التي نأت عن هذه الأفكار.عملياً، ما يقرر أهمية القصيدة، إذا توفر الفن، هو ليس الموضوع الكلي، ولكن زاوية النظر إلى الأحداث أو الناس أو الأشياء.وسواء كانت الكتابة شعراً أو نثراً، فأنت تحسّ: أن لولا الميل اليساري في هذه القصيدة لما امتازت هذا الامتياز واحياناً العكس، لولا اليمينية المُترفة أو المترفّعة في تلك، لما ارتضيناها. هذا يقول لنا كيف نقرأ نيرودا وناظم حكمت والبياتي عندنا وكيف نقرأ وردزورث وبليك وادونيس عندنا. ومن قال ان ادونيس ليس ايديولوجيا، اكثر من هذا، ليس سياسياً؟ كثير من الشعراء، وبينهم عدد من العراقيين الحداثويين، تجد في قصيدته الحالين، وبخاصة في القصائد الطوال ذات الخلفية الواقعية. فتبدو التأملات ذات طبيعة يمينية، وحين تأتي الإدانات الاجتماعية تبدو ذات طبيعة يسارية.في الادب الانجليزي قصص كبلنج مثل قصائد ييتس وراء جماليتها سياسة. وان كانت جذور الاثنين في بقعتين مختلفتين، كبلنج في برمنجهام وييتس في دبلن. والواقع هنا يختلف عن الواقع هناك. عموما هذه يعني ان أي شاعر جمالي يمكن ان يكتب قصيدة وراءها مادة سياسية، حتى براوننج العاشق المعروف بقصائد الحب، كتب "حكاية ايطالي في انكلترا" وقد تضمنت مغامرة سياسية مثيرة. وقصيدة اودن وهو اكبر شاعر سياسي في الثلاثينيات The Quarry "الضحية" هي قصيدة سياسية عالية المستوى وكذلك "رسالة الى لورد بيرون" وهما مثالان لتواجد الحالين في العمل الشعري الواحد.حين يكون الفن في القصيدة هو السيد، تظل الإنسانية فيها عامرة أي حين تكون القصيدة متقدمة فنياً تتقدم معها الرؤية السياسية وتكون ابعد تأثيراً . يقول ييتس في طيار ايرلندي: أولئك الذين أقاتل، لا اكرههم أولئك الذين أذود عنهم لا أحب.في الفن الرفيع تصفو الإنسانية وظلالها تشمل الجميع. تتحول السياسة في القصيدة الفنية إلى تأمل والكراهة إلى محبة ويتحول الحدث اليومي إلى شعر!
الشعر والسياسة
نشر في: 4 يوليو, 2012: 06:43 م