سرمد الطائي مع صياح أول ديكة الصباح سمعنا طرقاً قاسياً على باب المنزل، وتخيلنا أننا نواجه عملية اقتحام. نهضت بارتباك من يصحو لتوه، وفوجئت بعشرة جنود مدججين بالسلاح يقفون أمام الدار. حسناً إنه أمر مألوف، تريدون التفتيش، تفضلوا! لكن المفاجأة أنهم لم يكونوا يريدون التفتيش هذه المرة.
ما غرض الزيارة العسكرية في هذا الوقت من الصباح؟ قال ضابط شاب يرأس السرية المدججة بالسلاح، انه في جولة داخل الحي ويريد معلومات عن كل شيء. والحقيقة أن الإنسان الطبيعي يشعر بانزعاج شديد حين يوقظه عشرة جنود بكامل عدتهم العسكرية في الصباح الباكر، ويطلبون منه أن يدلي بمعلومات عن كل شيء. قلت لهم انني نصف نائم وقد أدلي بمعلومات خاطئة، وسأكون شاكراً لو يعودوا بعد ساعة كي أكون بكامل وعيي ولا أتورط بتقديم معلومات مضللة للحكومة لا سمح الله.بيد أن الضابط راح يصر على استجوابي. ما رقم داركم وما هو رقم زقاقكم؟ قلت له لا ادري. الضابط شعر بالغضب، وراح يسخر من جهلي برقم الدار والزقاق، ثم سألني عن عملي وعمل زوجتي وعدد عائلتي ومن هم أولاد خالتي.. الخ، وأجبته عن كل هذا، لكنه عاد يسألني عن رقم الدار والزقاق، محتجاً على انني لا اعرف هذه الأشياء.والحقيقة انني لا أتذكر رقم أي دار او زقاق في العراق، بينما في وسعي ان اتذكر ارقام الأزقة والدور التي كنت سكنتها في ايران والاردن. لان كل البلدان بما فيها المتخلفة باستثناء العراق، تعتني بهذه القضية السهلة وتضع هذه الارقام في مكان واضح، وفي النهاية فإن الحكومة هي التي تخبرنا بأرقام دورنا وأزقتنا لا العكس، ويقال ان هارون الرشيد نجح في ترقيم كل دور العراق رغم ان الاحياء السكنية كانت تمتد بلا انقطاع من بغداد الى البصرة "حسب اسطورة ديك السيدة الكرخية التي تحدثت عنها أمس" وجيشنا العظيم الذي تفوق ميزانيته ميزانية دولة مثل الاردن، يتجول في منطقتي لجمع المعلومات دون ان تكون لديه خارطة توضح أرقام الأزقة والدور، والضابط غاضب مني.لكن "اللعبة" اعجبتني وانا نصف نائم اتفاخر بجهلي، ورحت اثير سخط الضابط اكثر حين اقترحت عليه ان يستعين بدلال العقارات الحاج لطيف ومكتبه قريب، ولم يبق إلا القليل ليفتح مكتبه، وهو يمتلك خارطة تفصيلية مرقمة لكل المنطقة ويعلقها فوق رأسه متباهياً. ولعل الحاج هذا اكثر احترافا من استخبارات الجيش التي تداهم المنازل في الصباح الباكر وتغضب بسبب جهلي.والحكومة تطرق باب المنزل عدة مرات في الاسبوع وتقوم بتصرفات مضحكة. وقبل فترة جاءني احد جباة الضرائب وطلب مني دفع فاتورة هاتف بمبلغ 300 الف دينار، وحين اكتشف انني لا امتلك اي هاتف ارضي راح يصر ان لدينا هاتفا وعليه فاتورة كبيرة. وتذكرت عادل امام وهو يصرخ في المسرحية الشهيرة "اصلي ما عنديش تليفون". كما ان جابي ضرائب آخر طالبني بنصف مليون دينار لقاء الكهرباء الوطنية، تراكمت لثلاثة أشهر، وعلي أن ادفع فاتورة الهاتف والكهرباء رغم انني بلا هاتف وبلا كهرباء، ورغم ان اهل البصرة يستعدون لمظاهرات "كهربائية" كبيرة كما سمعنا من النائب عدي عواد.لم يفلح العساكر في معرفة رقم داري ورفضوا نصيحتي حول الاستعانة بالحاج لطيف الوسيط العقاري وانصرفوا بغضب، كما انهم لم يفتشوا الدار ويبدو انهم ملوا من تفتيش الشعب طيلة الاعوام العشرة الماضية، فكل واحد منهم قام بمليون عملية تفتيش دون ان يوقف زئير القنابل في وجوهنا.وقبل أسبوع جاءت سرية مسلحة وقامت بتفتيشنا ايضا، وحين سألنا عن السبب ذكروا ان معلوماتهم تفيد بأن عصابة مسلحة تقوم بالسطو على المنازل وانهم يحاولون تعقبها. والمفارقة انهم تركوا العصابة التي تسرق المنازل، وجاؤوا لتفتيش العوائل التي تتعرض للسرقة. وعلى اي حال لم يكن لديهم رد فعل مقنع سوى هذا الأداء المؤسف.الحكومة لم تعثر على عصابة السطو ولا المسروقات، كما لم تعرف رقم الدار ولا الزقاق، لكنها تطالبني بدفع فاتورة هاتف لا يعمل وكهرباء مقطوعة طيلة اليوم، والجابي يهددني بأن يقطع الهاتف غير الموجود او يلغي الكهرباء الملغاة اصلا، وميزانية بلادنا تفوق 4 مرات، ميزانية بلد عملاق مثل مصر، مع تمنياتنا للسلطان بالنجاح الدائم والثابت غير المتزحزح.
عالم آخر:حين تطرق الحكومة بابك
نشر في: 4 يوليو, 2012: 07:38 م