شاكر لعيبيمنذ وقت مبكر، كان بإمكان بناية مقر الجيش العثمانيٍ، السراي في بغداد أن تجاري نمط العمارة الكولونيالية. إن الأعمدة الأسطوانية اليونانية -الرومانية المكررة ذات التيجان المزيّنة من أعلاها بطريقة قليلة الإثارة، ذات المستويين: أربعة منها عند المدخل الرئيسي، وهي الأكثر علواً من الأخريات في المستوى الثاني، تحاول الانسجام، بشكل ملفق مع الأقواس الإسلامية، خاصة وأن أسلوبها قليل الحضور في قوس العمارة العباسية - البغدادية.
هنا محاولة للتلاؤم بين أسلوبين مع الإبقاء على "روح" معماري مربوط، بطريقة ما مع إرث العمارة الإسلامي. وهذا الأمر كانت قد حاولته العمارة العثمانية منذ وقت أبكر من ذلك في إسطنبول وغيرها من المدن، ليس فقط لأسباب جغرافية وبيئية، ولكن لأنها كانت تحاول التقرب من العمارة الأوربية السائدة، المعاصرة يومها، مع البقاء، بوعي مسبق، في تخوم عمارة تليق بإمبراطورية إسلامية تلم ميراث البلدان الواقعة تحت سيطرتها وتمثلها وتروّج لجوهر عماراتها. كانت العمارة العثمانية تقدِّم في الهامش العراقي على استيحاء، وقبلها بجسارة في إسطنبول المركز، أمثلة مواظبة للأسلوب والوعي النظري والأيديولوجي الذي يحرّك في الحقيقة ما سيسمى بالعمارة الكولونيالية، قبل الاستعمار البريطاني للعراق. إن مثال المدرسة المأمونية بارز أيضاً في هذا السياق. العمارة الكولونيالية مرتبطة جوهرياً بالاستعمار. وتجد أهم أمثلتها في مدينة بغداد، منذ عشرينيات القرن العشرين. ولعل بناية المتحف العراقي عام 1926 وكلية الطب مثالان بارزان هنا، أضف لهما مبنى القنصلية البريطانية الذي كان يقع في شارع النهر (لدينا بطاقة بريدية له مؤرخة بعام 1909 قبل أن يهدم حسين ناظم باشا جزءا منه لغرض افتتاح الشارع عام 1910).في الوعي العثماني الخجول لتحديث العمارة، عبر مزج العناصر الإسلامية بغيرها، ثمة هاجس أيديولوجي وسياسيّ، سنجده في كل ممارسة ثقافية أخرى، ويقع أصله في زعم الدولة العثمانية أنها تتابع أيضا هواجس عصرها وأنها لا تقلّ "حضارية" عن الإمبراطوريات الاستعمارية التي كانت تنافسها. كانت تزعم وتسعى كذلك إلى الإمساك بجوهر الحداثةٍ المهيمنة، بالترافق مع ارتباطها الإيديولوجي المحتم بالثقافة الإسلامية التي كانت مرجعاً لها ولعناصرها المعمارية. من هنا يخرج أيضا هذا الأسلوب المعماري الهجين. والمفردة الأخيرة لا تريد بحال أن تكون حكم قيمة. علينا الإشارة في عمود سريع كهذا إلى دراستين، الأولى للمعماري العراقي إحسان فتحي الذي يقبل إدراج العمارة العثمانية المتأخرة في بغداد في إطار العمارة الكولونيالية، والثانية للفرنسية سييسيليا بييري في سياق آخر. لا يقع التركيز في الكتابات المعمارية العراقية على أمرين اثنين: أولا: حضور هذه العمارة الأكيد، وبالتالي تناسيها في الثقافة العامة والمتوسطة السائدة، لصالح عمارة تراثية بغدادية أصلية مروّج لها من جهة، أو لصالح حركة معمارية عراقية معاصرة من جهة أخرى. وكلاهما يحتاجان إلى بعض التدقيق. ثانياً: سيادة نقدٍ خجولٍ للعمارة العراقية المعاصرة لجهة مرجعياتها التي تضبب أصالة بعضها من عدمه، وقلة الإشارات إلى غياب الوعي الجمالي الصافي في الكثير منها مقابل الوظيفية الصارخة فيها. وكلا الأمرين يجعل الحديث عن العمارة العراقية التراثية أو المعاصرة حديثاً أيديولوجياً بالأحرى في حصةٍ كبيرة منه، أي مديح عريض للذات الثقافية الوطنية.
تلويحة المدى: هل لامست "العمارة الكولونيالية" مدينة بغداد؟
نشر في: 8 يوليو, 2012: 07:15 م