سرمد الطائي ترى كم سيدة من أرامل الحروب تسير نحو الكاظمية اليوم؟ ان العلاقة بالله في بلادنا ضاربة في القدم. والاحساس بالحاجة الى "رحمة بمثابة معجزة" أمر ضارب في التاريخ أيضا، فالأزمات على مر العصور كانت لا تجد حلاً سلساً، ودول وادي الرافدين تقوم وتنهار بسرعة وتتصارع بالدم فيما بينها كالقبائل القديمة، وعصور الظلام تطول وتطول، ويخيّل الى العراقي ان السماء كانت أكثر رحمة بالشعوب الاخرى. وهناك من يردد ان السماء هذه تعاقبنا.
السومريون كانوا يكنون احتراما هائلة للآلهة الأم "ننماخ". زرنا معبدها في بابل، ووجدنا بئرا قال عنها الدليل السياحي ان الآلهة تركتها وحولتها الى سجن للملكين هاروت وماروت، حيث علقا هناك منذ ألفي عام. لكن باحثاً في التاريخ القديم يقول لي ان حكاية "الالهة الأم" هذه معقدة كثيرا. ففي نهاية العصر البابلي ومع انحدار الدولة وضعفها وتعرضها للاحتلال والسقوط على يد ثلاث أمم كبيرة، راح الناس يتداولون معلومات تفيد بأن "ننماخ" تخلت عنهم، وانها بعد ان جعلتهم امة مميزة وعلمتهم على مر العصور، إيقاد النار وصناعة العجلة ووضع الرموز الفلكية، "سئمت" من اخلاق الملوك والعبيد، والخاصة والعامة، و"عادت الى موطنها القديم في السماء". الأمم في زمن البلوى تشعر بأن السماء تخذلها، او تعاقبها، وهكذا تفسر الانحطاط المتواصل في المدنية والعمران.اعداد كبيرة من العراقيين هذا الاسبوع يمشون نحو أضرحة الاولياء. انهم قادمون من اكثر الاحياء بؤسا في العاصمة، وأبعد المدن والارياف التي تعيش الحرمان. كأنهم يبحثون عن الله تحت الشمس الحارقة. الظلم الذي يتعرضون له كل يوم لم يجعلهم يشعرون باليأس من وجود رحمة ما. نلمحهم هذه الايام وقد نتضايق من حركة مواكبهم والزحام الذي يخلفه في شوارعنا، مع كل هذه الرايات السود الناحبة.. نلمحهم يسيرون على الاقدام قاطعين المسافات، وندرك ان احزابا وعشائر وجماعات، تحاول ان تتكسب من وراء كل ذلك، لكن حجم الظلم في هذه البلاد وانسداد سبل الرحمة، وانشغال السلاطين بسلطانهم، مع كل هذا الرياء، يخبرنا بأن الماشين على اقدامهم يحملون عبئا ثقيلا في الروح واحساسا بـ"الخذلان والهضيمة". يريدون ان يصرخوا بالشكوى بين يدي حَكَم محايد، ليس عضوا في حزب ولا أميرا لجماعة.نساء محملات بألف بلوى، يتلفعن بالسواد ووجوههن تصرخ بالعجز. ترى كم من أرامل الحرب الاهلية وكل الحروب الخاسرة الاخرى، تسير نحو الكاظمية اليوم؟ هل هذا الطفل الذي تحمله من ايتام حروب الطوائف ايضا؟ السيدة تمشي على الارصفة الخربة التي ابتلع "المقاولون" دولاراتها مرارا دون ان يحسنوا إعدادها لمشي يليق بالبشر. السيدة المعدمة تمشي وسط كل هذا الخراب، والغبار يتصاعد ليغطي وجهها ووجه صغيرها، بعد ان "خطفت" من جانبها سيارة رباعية الدفع يملكها مقاول ابتلع ثمن الرصيف وثمن الحليب وثمن كل شيء، مرارا. اللص يمرق بسيارته المبردة وامتيازاته، وحرسه الزاعقين في وجوه الجميع، والأرملة تمشي باحثة عن الرحمة.العراقيون لا يزالون يطلبون الرحمة، وحكوماتهم تفشل في اتقان شيء مفيد. لقد ودعوا عهدا اسود محملين بأحلام وآمال بتغيير المعاش وانحسار البلوى، لكنهم ظلوا بائسين. يمشون في شوارع متربة تحت سماء مغبرة والطقس هو الاقسى في الشرق الاوسط. يقصدون زيارة اضرحة الاولياء، املا بأن تحل عليهم البركة وتفك "لعنة التاريخ" التي راحت تنقل البلاد من حقبة الظلام الى مسرح الفوضى. اللعنة التي تخلصهم من "تنظيم القاعدة" لتجعلهم اسرى النخبة الحاكمة بشهوة الاستبداد، والاستئثار بالثروة، وما يسمعونه كل يوم من أنباء "الحرب الوشيكة" بين الزعماء. يمشون ويدركون انهم الضحية الوحيدة لكل حرب. كل مرة كانت الحرب تشتعل، كان الزعيم ينفذ بجلده، ويخرج متفاخرا بالنصر. حتى الضحايا الميتون هم دليل على نصر السلطان. الايتام والارامل الماشون بحثا عن الرحمة، مجرد قربان لتدعيم نصر السلطان المؤزر.عراقيون تلمحهم اليوم وهم يبحثون عن "الله" رمز العدالة الاخلاقي، يريدون دليلا آخر على الرحمة. يتحرون اشارة على ان الزمن السيئ سينتهي، يريدون ان يعثروا على "باب الرب" لعله يقول لهم انه لن يخذلهم أكثر، وان في وسع المرء ان يحلم مرة اخرى، بأنه لن يكون مجبرا على الوقوف ذليلا على باب حاكم ظالم.
عالم آخر:حين يبحث العراقي عن الله
نشر في: 9 يوليو, 2012: 06:46 م