بشكل لافت للنظر،يبحث جيل من الشباب في اليوتيوب،الأيام هذه عن(اغاني المعركة)وهي تسمية أطلقت على الأغاني والأناشيد التي سجلها تلفزيون بغداد للحرب مع إيران،ليستنسخونها على هواتفهم الشخصية الجوالة،وليستمعوا لها عبر الهيدفون،فرادى أو متجاورين،وهي قضية تستحق التوقف قليلا،إذا ما علمنا بأن بعض الأغاني هذه لحنها ملحنون وموسيقيون كبار،وهناك مقطوعات غاية في الجمال والأتقان تستهوي عشاق الموسيقى.لكن الأكيد بحسب بعضهم،أن الأغاني تلك تتحدث عن مرحلة من المراحل كان العراق فيها (البطل العربي)الأول،هل نتلمس هزيمة في نفوس جيلنا الجديد،؟من يقول لا هو المخطئ بيننا،بكل تأكيد .
على الرغم من ظلم وقساوة وبطش النظام السابق حتى بأقرب محبيه إلا أنه،شئنا أم أبينا،كان امتدادا لمئات وآلاف من السنين، ظل العراقي فيها يشعر بالقوة والعظمة،ولم تبارحه فكرة البطولة،الفكرة التي تمد جذورها عميقة في روحه منذ آشور بانيبال وسرجون الأكادي وحتى علي بن أبي طالب،الذي لم يفهم صورته إلا من خلال السيف (ذي الفقار، والأسد) الرابض عند قدميه،ويكاد يغيّبُ أيَّ حديث عنه خارج منطق القوة والفروسية،وحتى اليوم،وبعد الهزائم والويلات الكثيرة التي عاشها ظلت صورة البطل في ثورة العشرين،من أمثال الشيخ شعلان أبو الجون والشيخ ضاري وسواهما هي التي يحرص ويبحث على تأكيدها في إفلاس شبه تام من وجود مماثلين لهم.وهي مشكلة أخرى تؤرقه،راح يبحث عن معادلها في مواقع اليوتيوب. بعد نهاية حرب الثماني سنوات مع إيران واشتداد الحصار عليه وعقب هزيمته في حرب الخليج الثانية ودخول القوات الأجنبية بغداد وجد العراقي نفسه ضعيفا،مهانا،فهو بلا جيش يدافع عن حدوده،بلا شرطي أو قانون يحميه من خصمه المحلي،زاد ذلك تطاول بعض دول الجوار الصغيرة والكبيرة عليه،والعبث بأمنه،فجأة صار الرجل المريض،هو الذي كان يعتقد بأن أي قوة في الكون لا تستطيع الوقوف بوجهه والصمود أمامه ساعة من النهار،وهو سلسل الرفعة والمنعة والعلو،أو هكذا أوهمه النظام السابق،وهي مشكلة نفسية ظل يعاني العراقي،أي عراقي منها،هناك شعور أبدي بالبطولة،لا ينفك يؤرقه،وهناك إحساس بدونية الآخر،أيّ آخر من دول الجوار،فهو يسمي الإيراني(أبو القمل)والكويتي(هذا شنو؟)والسعودي(منو هذا؟) وهكذا وجد نفسه عاليا ،أعلى من أي كان،حتى أنه بات لا يقارن نفسه إلا بنخيله المنتصب أبداً.شعور متجذر،عميق،لا أحد يرتقي لمعناه اليوم،هذا الشعور العظيم،ومع شديد الأسف،لم يراع اليوم،أغفله الحاكمون الجدد،الحاكمون الذين بعثروا قواه بمشاريعهم السياسية الفاشلة،بددوا ثرواته،وحطموا قيمه التي لا يستطيع العيش خارجها،العراقي الذي لم يحظ بحاكم واحد قادر على منع اقتتاله مع أخيه،لذا،وكتعويض،ليس إلا،ربما رأيناه يلتجئ لشبكة الانترنيت،عساه يجد ضالته في شريط السلليوز،فهو يبحث عمن يسمعه وجيب روحه. هناك من يرى في سماعه لأناشيد الآلام في العزاء الحسيني على أنها نوع من النكوص الداخلي،إرتداد في الذات،ويذهب آخرون إلى أن مشاهد الضرب بالسيوف على الرأس يوم العاشوراء،والحرص على القيام بها أمام الملأ، لا تخرج عن ذلك،وبمعنى من المعاني يريد العراقي أن ينتصر على هزائمه،يريد أن يتوازن مع محيطه في الداخل والخارج،وفيما هو في دوامة ذلك،هناك من يعمل على تفريغه من شعوره هذا،دول كبيرة وصغيرة تعمل على هدم شعوره فيما ينشغل حاكموه بخلافاتهم،بعيدا عن التفكير باستعادته بطلا حقيقيا،بطلا منتصرا على نفسه أولا، قبل أن يفكر بالانتصار على غيره،العراقي الذي شكلت جملة (الأوهام) شخصيته لا يجد اليوم من يعيد له أوهامه تلك.
قبل خراب البصرة
نشر في: 9 يوليو, 2012: 06:59 م