د. محمد حسين حبيب من تقديم فرقة مسرح التربية في بابل – العراق .. وعلى قاعة مديرية النشاط المدرسي فيها عرضت مسرحية (ريح السموم)، إعداد وإخراج الفنان (غالب العميدي) عن قصة بالعنوان نفسه للكاتبة رفيقة الطبيعة المنشورة في مجلة الأقلام العراقية عام 1979 بحسب برنامج العرض ، وتمثيل نخبة متميزة من فناني المسرح في مدينة الحلة وهم : ( محمد المرعب، وعلي حسن علوان، وثائر هادي جباره، وحسن الغبيني، ورحيم مهدي، وباسل ماجد، وعلي غالب كمال الدين، ويسرى جبار، وكاظم جودة، وجواد الصائغ).
في روايته ( 1984 ) التي كتبها الروائي البريطاني جورج اورويل عام 1949 تنبأ فيها بانهيار السلطات والأنظمة الديكتاتورية في ثمانينات القرن العشرين .. ربما تأخر هذا التنبؤ الروائي عدة سنوات ، إلا ان هذا التنبؤ قد تأكد اليوم مسرحيا عبر هذا العرض الذي كشف - ومنذ عنوانه (ريح السموم) بمحمولاته الرمزية العالية كثريا نص هذا الخطاب المسرحي – محذرا من الريح القادمة إلينا حاملة سمها القاتل للجميع ،هي زائلة حتما شأنها شأن الأحكام والسلطات الجائرة والظالمة لشعوبها فمصيرها الانهيار الحتمي وخاصة اذا كانت هذه السلطات مُسيّرة بأيدي خفية ( مسكوت عنها ) تتحكم بأنظمتها وأحكامها . لغويا وبحسب موسوعة ويكيبيديا الالكترونية إن ( رياح السموم هي رياح عنيفة حارة تتجاوز حرارتها الـ 54 درجة مئوية وهي كذلك جافة حيث ان رطوبة الهواء تقل عن 10% تتحرك في قالب دوائر رملية حاملة معها حبات رمل ... وهي ايضا ظاهرة من الظواهر المناخية العاتية ) .. ولقد ذكرها (السيوطي) ايضا ضمن أحداث سنة 232 بوصفها من العجائب التي هبت على (العراق) فأحرقت زرع الكوفة والبصرة وبغداد ودامت خمسين يوما وقتلت ناسا كثيرة يومها .. من هنا جاءت رمزية العنوان في محاكاته للواقع العراقي المعيش دراميا ، حين بدأ العرض بفرضيته الدرامية والإخراجية ومنذ البداية . فنحن امام عرض مسرحي عراقي يفترض المكان والزمان .. يفترض الأسماء والأشياء .. لكنه لا يفترض الصراع ولا الحكاية ، لان صراع (السلطة) مع (الحكمة) قائم ومتجذر عبر احقاب التاريخ والى يومنا هذا .. هي رياح سامة إذن ، عصفت بعنف على المدينة المفترضة، المدينة التي يعاني ناسها ويحلمون بالحياة الآمنة المنتظرة، ليدخل الملك الذي جسده الفنان (ثائر هادي جباره) عابثا فاسدا بالمدينة وأهلها، غير مبالٍ لنصائح ومواعظ ( الحكيم ) الذي جسده الفنان (علي حسن علوان) ، لنكتشف أن يدا خفية تدير زمام الأمور وتتحكم بالملك وطغيانه وهو شخصية (المخطًط) أو (علامة الاستفهام) بحسب برنامج العرض، الذي جسدها الفنان (محمد المرعب) . تأسس فضاء العرض على فرضية بناء شكل تجريدي لجدران وقلاع عملاقة ومداخل وعرش ملكي تتصدره علامة الدولار ، وهناك على يمين المسرح يوجد ( بلال الحبشي ) مقيدا والذي جسده الفنان (كاظم جوده كاظم) ، اما في يسار المسرح نشهد ( المسيح ع ) مصلوبا والذي جسده الفنان (جواد الصائغ) ، وفي عمق المسرح كان دائما (علامة الاستفهام) مجهول الاسم والهوية الذي يرتدي زيا معاصرا - بعكس جميع الشخصيات الاخرى التي ارتدت أزياءها التاريخية الافتراضية ايضا - وهو يوجه ويخطط لكل الذي جرى ويجري من الاحداث وسط هذا المثلث الدامي والحضاري والديني والسياسي والثقافي . المثلث الحاوي على (القداسة والدناسة) .. على (الديانة و السياسة) .. على اللهاث وراء الشهوات والمطامح حتى ولو على جثث الآخرين . وكانت للمرأة التي جسدتها الفنانة (يسرى جبار) حظوتها أيضا من الانتهاك والاغتصاب كما هي مستلبة الحقوق أبدا، كانت هي الأم والزوجة والأخت والحبيبة، وكانت ايضا هي (الوطن) المغتصب وعلى يد المخطط نفسه (علامة الاستفهام) مجهول الأصل والهوية والتاريخ. من المهم الإشارة الى تسمية (المسخ) هنا الذي وصف معد ومخرج المسرحية (غالب العميدي) مجموعة العرض الأربعة كنماذج لناس هذه المدينة المفترضة ، فالمسوخ هم من تحولت صورتهم الى صورة قبيحة او مشوهة الخلقة .. فلم تكن التسمية تتناسب مع الهيئة التي ظهرت فيها المجموعة ، الا ما يسلكونه أحيانا كحركات وأفعال حيوانية حاول العرض مسخهم لانهم الضحية دائما وفي نفس الوقت يتحملون انفسهم ما يقع عليهم من جور وظلم من حكامهم نتيجة أهوائهم العابثة ونفعياتهم المؤقتة ، لكنهم الضحية دائما ، ولهذا لم نجد مسوغا لهذه التسمية المجحفة بحق البسطاء والفقراء من الشعوب . وعودا إلى نبوءة (اورويل) وتوكيدية (العميدي) ينهار كل شيء .. فبعد إعدام (الحكمة) وقتل واغتصاب (المرأة) وتشتت (المسوخ) ، تتحكم القدرية المخبوءة بسحق المكان والزمان ، كأننا أمام لحظة نهاية العالم ، لينهار المكان المسرحي بما فيه من جدران وقلاع وعرش ، فيتحول الى ركام ولا نرى سوى التراب الذي تسكنه الاجساد والجثث الهامدة تحته .. فجأة يظهر لنا (الحكيم) بلباسه الأبيض المشع عبر عالمه الافتراضي الجديد ليقول لنا : ( الإنسان كلمة إن قلتها تمت وان لم تقلها تمت قلها ومت ) بوصفها حكمة العرض الفكرية والإخراجية . نظرا للخبرة الادائية التي يتمتع بها الممثلون فقد سعوا الى الاقتراب من شخصياتهم بجدارة واضحة لاسيما الادوار الرئيسة في هذا العرض المبني على ايقاع صارم و
مسرحية ريح السموم.. انهيار الأنظمة المُسيّرة
نشر في: 13 يوليو, 2012: 05:53 م