شاكر لعيبيأيّ مهرجان للرقص الحديث اليوم يمكن أن يثير سؤال العمود الحالي، دون الحديث عن العلاقات الداخلية القوية بين الشعر والفن التشكيلي. الشعرية ليست حقلا يختص بالكلام واللغة وحدهما، إنما يمتد ليتغلغل في الأنواع البصرية والسمعية. نتكلم عن رؤية متفارقة عن الرؤية المألوفة المنطقية، الأكثر انضباطاً بالعقل الاستدلالي.
هذه رؤية شعرية مهما كان الحقل الذي تشتغل فيه، لغويّا أو مرئيّا. عندما أقول إن هذه الرواية تتضمن شعرية عالية فأنا لا أقصد اللغة الشعرية القائمة على الاستعارة والمجاز فقط، بل قد لا أعني ذلك أبداً، إنما أتكلم عن تلك الرؤية الشعرية التي تشيع فيها وتمنحها مذاقاً يختلف عن لغة النثر العادي. ينطبق الأمر على الفيلم السينمائي والرقص الرفيع وعلى غير ذلك من الأنواع غير الكتابية والجسدية. الشعر والفن التشكيلي هما لغتان. صحيح أن لكل منهما قواعد عمل مخصوصة، لكن الصحيح أكثر من ذلك أن هذه القواعد تمرق، في الأعمال الرفيعة المستوى، عن الاستخدام العاديّ الذي بإمكاني تسميته بالنثري. بإمكاني القول إن الحقل الجمالي، والجماليات بالمعنى الفلسفيّ، هو الحقل العريض - الضيق الذي تتزاوج فيه الأنواع كلها على الإطلاق.من باب أولى يفيد الشعر والفن التشكيلي من بعضهما، لأنهما يرضعان من الهمّ نفسه، بل يوجد بينهما تعالق جوهري في الحالة التي أتكلم فيها عن القدرة على خلق مناخات تكسر المألوف، تنغمر في الغرائبي، في الحلمي، في الرهيف وفي الطفيف الممنوح معنى وجودياً. التفاحة مثلاً بالنسبة للرسام محض ذريعة لقول أمر وجودي، مثلما هو حالها عند الشاعر. المشكلة أن صورة الشاعر في الثقافة العربية المعاصرة هي صورة ملتبسَة ومختصَرة إلى محض قوّال للكلام الجميل، إذا لم أقل للكلام عموماً، دون اهتمامات حقيقية بالفنون الأخرى والفلسفات والتراث. الشعر ليس تنويعاً على تلك الاستخدامات والاستعارات والمجازات التي صارت، بحكم فاعليتها طويلة الأمد، تُحْسَب فوراً على الشعرية، إنما الشعر هو خلق للاستعارات والمجازات الجديدة من أجل إنشاء فضاء متخيَّل دالّ، فرديّ. لذا يمكن للشاعر الإفادة من الفنون جميعها كالموسيقى والتشكيل والعمارة والتراث لتأثيث ممراته وجدرانه. هنا نصطدم بمشكلة كبيرة في المخيال الجماعي للثقافة العربية عن "صورة الشاعر" المثالية المشار إليها. صورة منحته ذات مرة صورة الحكيم مع هوامش كثيرة لاهتمامات لذّويّة ووجودية وصعلوكية (وكلها بالمناسبة تتضمن حكيما خفياً)، ومنحته في العصور الحديثة صورة الرومانسيّ الحالم الجالس في برجه العاجي بعيداً تقريباً عن أي اهتمام ثقافي أو فلسفي أو تشكيلي جدي، ثم صورة المارق النزِق الصعلوك أيضاً. إنه اختصار فاحش لصورةِ يمكن أن تكون أعمق من ذلك كما هو الحال في وضعيته الثرية في الثقافات الأخرى. في جميع الحالات تثير المشكلة، في عمقها، مقترح بقاء الشاعر في حقل الشعر وحده، لكأن هذا الحقل مسيَّج ومنغلق على نفسه. وهو أمر غير دقيق أبداً. يحتاج الأمر إلى مساءلة علاقة الشعري بالمرئي أو البصري، وعن اندغام المرئي باللامرئي في النص المكتوب، وارتباط الظاهر للعيان بالباطن المخفيّ. هذه الثنائية لا معنى لها في النص الشعري الذي يُدْمِجهما كليهما في لحظة اشتغاله. ثمة تقاطع مثير بين المرسوم والمكتوب اللذين يقع الجوهريّ فيهما أبعد من شكلهما الظاهر. الغائب فيهما أهمّ من الحاضر.هل المطلوب أن يبقى الشاعر في الجهل المطبق لكي يستخرج النص الشعري الصافي؟ من أين سيخرج النص المأمول دون ثقافة عميقة موصولة بحساسية عالية وذائقة متميزة، وهذه كلها لا تولد معنا بالغريزة البهيمية، إنما نكتسبها عبر المران والوعي والقراءة العميقة. في هذه الحالة يكون الفن البصري الأقرب، بل الموصول بحبل سري إلى الفن الشعريّ.
تلويحة المدى: الشعر والفنون البصرية اليوم
نشر في: 14 يوليو, 2012: 06:37 م