هاشم العقابيفاجأني صديق بعمّان كدت لا أصدق عيني يوم سلم عليّ بعد ربع قرن من الفراق. وبعد جلسة قصيرة في المقهى دعاني للتجوال في سوق الخضراوات. ولماذا سوق الخضراوات لا غيره؟ حتى أشبع قهر. وهل أنت ناقص قهر؟ قال لي: القهر مثل الفرح لا يمكن للإنسان أن يشبع منه. مدمن على القهر صديقي هذا، وأنّى لي أن أقنع مدمنا بالكف عما أدمن عليه.
السوق عامرة بأنواع الخضراوات والفواكه التي تباع بأسعار تقارب "البلاش" مقارنة بأسعار العراق، كما علق صديقي "المدمن". دتشوف؟ نعم أشوف. أتعرف أن الأردن أرضها صخرية وليس فيها أنهار ولا موارد مائية تصل إلى واحد بالمئة من مواردنا؟ نعم أعرف. زين ليش كل هذا الخير عدهم وإحنا نستورد الطماطة الخايسة والفواكه التعبانة من اليسوه والما يسوه والأسعار ما تنحمل؟ رفع صوته وكأنه يريد أن يسمع أهل العراق وهو في عمّان: زين لو ذوله عدهم مثل دجلة والفرات جان اشسووا؟ سمعه رجل أردني كبير السن فأجابه نيابة عني: لو كان عندنا الذي عندكم لغطينا ارض العالم وسماءها بما لذ وطاب من خيرات الدنيا! لم يجبه صاحبي بل التفت نحوي يعاتبي: ها، عرفت ليش أريد أشبع قهر؟ ولا أدري ما الذي دفعه إلى أن يغني وسط الناس:المصايب ما لون غيري لوني ونين الخنسه ما يشبه لونيعفاني شكثر ضيم احمل لوني صخر جا ما حملت الصار بيهتطلع الشيخ بوجه صاحبي مستحسنا صوته ، ثم التفت إلي مستفهما بحركة من يديه دون أن يقول شيئا. أجابه صاحبي: إي عمي أنا مخبل، ارتاحيت؟ تذكرت صاحبي وقصة سوق الخضراوات والنهرين، وأنا أقرأ تقريرا خبريا عن غرق العراقيين في الأنهار. نهران لم نجد حكومة منذ عهد صدام ولليوم استثمرتهما لصالح الناس. وحتى عندما يلوذ بهما العراقيون هربا من شدة الحر والحرمان من الكهرباء يتلقفهم الموت هناك. تساءلت: هل يعلم ذلك الشيخ الأردني بأننا لم نعجز عن الاستفادة منهما بالزراعة، فقط، بل وتحولا بالنسبة لنا إلى مصدر للموت لا للحياة؟ وإن علم، فهل كان سيتمناهما لبلده؟في كل بلدان العالم، التي تحترم شعوبها، هناك قوات خاصة لحماية الناس قبل أن يغرقوا وليس لانتشال جثثهم بعدما يغرقون. أما بالعراق، فلدينا قوات "نجدة" نهرية، دورها ليس للنجدة بل إنها جاهزة تنتظر خبرا عن غريق فتذهب إليه بعدما يشبع غطّا لتخرج جثته. نقل التقرير وصف مفوض غواص في قاطع النجدة النهرية لواجبات قاطعه قوله إن "واجبنا كمفرزة غواصين المحافظة على أرواح المواطنين، فعند وقوع حالات غرق تذهب مفرزة الغواصين إلى موقع الحادث لإخراج الجثة التي يتم تسليمها إلى معاونية الشرطة".هكذا إذن هي طريقة "النجدة" العراقية في "المحافظة على أرواح العراقيين": أن تصل إليهم بعد الموت لا قبله. إنها نفس طريقة قواتنا الأمنية في معالجة التفجيرات الإرهابية، وكأن شعارهما معا هو انتشال جثث الموتى وليس حمايتهم من الموت.حالة ذكرتني بذلك السائق الذي أراد أن يرجع سيارته إلى الخلف فطلب من صاحبه أن يقف وراء السيارة ليرشده كي يرجعها بأمان. صار الصاحب يصيح على السائق: ارجع .. ارجع .. ارجع. وهناك صاح به: هــوب، هوب .. سحكتلك واحد.وهكذا هو شر البلية قد يضحكك، بينما يشبع غيرك قهرا أو موتا أو غرقا.
سلاما ياعراق : يشبع قهر!
نشر في: 14 يوليو, 2012: 07:20 م