فاضل السلطانيلا يمكن فهم جوهر التحولات الفكرية الكبرى في النصف الثاني من القرن العشرين، من دون الرجوع إلى فكر غارودي. كان وحده كتيبة فكرية، من معركته الكبرى مع الوجودية التي اعتبرها «فلسفة غير إنسانية»، وهو عنوان كتاب له ردا على كتاب سارتر «الوجودية فلسفة إنسانية»، إلى معركته مع بيته الداخلي، ونعني حزبه الشيوعي الفرنسي، الذي كان عضوا في مكتبه السياسي، والحركة الاشتراكية العالمية. كانت معركة مع إمبراطورية فكرية كاملة، ودفع ثمنا باهظا في وقت مبكر لم يجرؤ أحد فيه على رفع سبابته في وجه من كان يسمونهم آنذاك « المنظرين السوفيات» الذين رسموا سياسات الأحزاب الشيوعية في أوروبا وخارجها من مقاعدهم في الكرملين..
لقد حول هؤلاء الفكر الماركسي إلى مقولات معلبة أرادوها أن تصلح لكل زمان ومكان، وجعلوا الأفكار تحل محل الواقع، بل أن يستنبط الأفكار من الواقع كما كان يفعل ماركس، أي أنهم، بكلمة أخرى، جعلوا النظرية الماركسية تقف على رأسها بعد أن كانت واقفة على قدميها، وهو عكس ما فعله ماركس مع ديالكتيك هيغل. هذا ما كان يذكر به غارودي دائما، ويناضل إلى جانب بعض رفاقه في الحزب الشيوعي الفرنسي مثل الفيلسوفين هنري لوفيفر ولويس ألتوسر، من أجل تصحيحه بلا جدوى. وفعل ذلك أيضا مع «الواقعية الاشتراكية»، التي أرادها الفكر الجدانوفي أن تكون التعبير الجمالي والأدبي عن الحركة العمالية والفكر الاشتراكي. رفع غارودي صوته قويا تقريبا ضد هذا الاتجاه، الذي يتنافى مع المبادئ الماركسية الأصلية، وحتى مع فكر لينين في ما يخص الأدب الإنساني. لقد أعاد غارودي في كتابه «واقعية بلا ضفاف» الاعتبار إلى كتاب وفنانين صنفهم الفكر الجدانوفي السوفياتي باعتبارهم كتاباً برجوازيين صغارا، وبالتالي حظرت أعمالهم في البلدان الاشتراكية مثل فرانز كافكا وسان جون بيريس وبيكاسو، على الرغم من عضوية الأخير في الحزب الشيوعي الفرنسي. استند غارودي في قراءته الرائدة تلك إلى فكر ماركس نفسه، الذي أحب شكسبير، وكان يفضل النبيل بلزاك، على روائي الطبقة العاملة إميل زولا، مثلما كان لينين يفضل بوشكين على مايا كوفسكي، شاعر ثورة أكتوبر/ تشرين الأول، إذ كان هؤلاء ينظرون للعمل الأدبي كقيمة جمالية، أولا وأخيرا. ابتداء من هذا الكتاب، بدأت الهوة تتسع بين غارودي وحزبه الشيوعي الفرنسي المتمسك، كغيره من الأحزاب الشيوعية آنذاك، بالخط السوفياتي، وبما كان يسمى آنذاك «علم الجمال الماركسي»، الذي أساء للأدب كثيرا، كما أساء لماركس نفسه. وبعد معركته الجمالية الكبرى هذه، انتقل غارودي إلى معركته الفكرية مع النظرية السوفياتية السائدة آنذاك في ما يخص مفهوم الطبقة العاملة، والتطور الرأسمالي، والانتقال إلى الاشتراكية ومراحله، وديكتاتوريي البروليتاريا، وذلك في كتابه «منعطف الاشتراكية الكبير»، الذي استخدم فيه للمرة الأولى في الفكر الماركسي مصطلح «الملف التاريخي الجديد» . وهو يعني بذلك أن مفهوم الطبقة العاملة لم يعد كما هو في فترة ماركس، وإنما توسع كثيراً خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، والتقدم التقني في البلدان الرأسمالية، فأصبح يضم شرائح واسعة من المجتمع غير مرتبطة بالعمل اليدوي المباشر، وإنما بالعمل الذهني كالمعلمين والمدرسين والمهندسين والأطباء والمثقفين، المنسحقين تحت ضغط رأس المال، والذين يبيعون إنتاجهم الفكري والذهني، كما يبيع العامل إنتاجه المادي تماما.دفع غارودي كثيرا ثمن هذه الشجاعة النادرة في مواجهة تيار عالمي عارم، وبنية فكرية مترسخة في البلدان الاشتراكية السابقة، والأحزاب الشيوعية المنتشرة في عموم الكرة الأرضية، فلحق به ما يشبه التكفير في أيامنا هذه تحت التسميات الجاهزة آنذاك: تحريفي، برجوازي صغير، معاد للطبقة العاملة، أو مرتد. وهي تهم جاهزة دائما للأسف في الكثير من الأحزاب الشيوعية آنذاك. أدت القطيعة الفكرية والتنظيمية مع الحزب الفرنسي، والمنهج الفكري السائد، إلى ما يشبه الاهتزاز النفسي، فليس سهلا أن يجد المرء نفسه فجأة في العراء بعد أن فقد إيمانه بفكرة ما ملكت عقله وروحه أغلب سنوات حياته. سيسود شعور بخواء فكري وروحي لا يمكن ردمه إلا ببدائل أخرى، وهمية أو غير وهمية. وإذا كان رفيقه ألتوسير، عضو المكتب السياسي للحزب الفرنسي آنذاك وأحد أكبر مفكريه، قد فقد عقله وأنهى حياته، فإن غارودي، الذي لم يكن يستطيع أن يعيش بلا إيمان أو دين كما صرح أكثر من مرة، اختار الصوفية كبديل لم يصمد طويلا. ووجد هذا الرجل، الذي ثار على منهج ستالين، نفسه مروجا لنظرية القذافي العالمية الثالثة! ومدافعا خجولا عن نظام صدام حسين. فقد زار العراق في أوج القمع الفكري والسياسي، وذكر في مقابلة مع تلفزيون بغداد، أن ما يقال عن انتهاك حقوق الإنسان في العراق أمر لا يعنيه، فهو لا يتدخل في الشؤون الداخلية لهذا البلد، وإنه «قابل المسؤولين العراقيين وتعلم منهم الشيء الكثير.»هي أخطاء كبرى بالنسبة لرجل مثل غارودي، لكنها لا تحجب مسيرة فلسفية وفكرية كبرى ساهمت في رسم مسار القرن العشرين، وستبقى مؤلفات مثل «واقعية بلا ضفاف»، و«النظرية المادية في المعرفة» و«ماركسية القرن العشرين»، و«المنعطف الكبير للاشتراكية» و«الماركسية والوجودية»، و«الماركسية والأخلاق»، و«نحو واقعية القرن العشرين - دراسة حول يرناند ليجير»،
مواجهات غارودي
نشر في: 15 يوليو, 2012: 07:21 م