سرمد الطائي شوارعنا لا تعاني من مجرد ازدحام أو مجرد انتشار 20 ألف سيطرة على طول البلاد وعرضها. بل طريقة حركة الناس تقدم لنا صورة عن ارتباك هائل داخل الروح العراقية، يصعب فهمه.في واحدٍ من الازدحامات الخانقة التي علقت فيها مؤخرا، كانت هناك شوارع مصمّمة في خمسينات القرن الماضي لمرور سيارة واحدة ربما. لكن ما يحصل أنها تزدحم بثلاثة مسارات للعجلات اليوم، فيتوقف فيها السير تماماًَ لوقت طويل، ويصطدم هذا بذاك ويصرخ فلان في وجه علان، وهو مشهد يشبه يوم قيامة ما حين يعترضك في ظهيرة صيف عراقي.
الطريق الضيقة أصلا في الأزقة الخلفية لشارع السعدون، وما شابهها من آلاف الأزقة، جاءت عجلة حكومية ضخمة "تنكر" وأغلقت نصفه. بينما قامت سيارة عسكرية بالوقوف في جهة أخرى منه وتضييقه على نحو فنطازي.سائقو العجلات الاهلية يحاولون في هذا الخضم ان يتصارعوا للحصول على منفذ. الجميع يصرخ، لكنهم يكتشفون أن بقعة مياهٍ آسنة تقوم بتغطية حفرة كبيرة وسط الشارع، وان سيارة إيرانية رديئة من تلك التي تحرص الحكومة على استيرادها، غطست في هذه الحفرة وانخلع إطار عجلتها الرديء وغير المحكم. الجميع يحاول استخراج "السايبة" ويفشلون، وحين يفكرون بالاستعانة برافعة يسأل احدهم: كيف ستدخل الرافعة إلى هذا الزقاق الذي أصبح طريقا مغلقا توقفت فيه نصف سيارات العاصمة!هنا كراج غير قانوني قام احدهم بالتنسيق مع مسؤول فاسد، باختراعه وراح يقبض من الناس رسوم الوقوف. دخول السيارات وخروجها منه يساهم في سد طريق فرعي مليء بالسيارات. وهناك ورشة تصليح اختار لها صاحبها أسوأ موقع، ووقوف العجلات العاطلة أمامها راح يسد ما تبقى من منافذ في هذه الطريق.لا مخطط الشارع يسمح بمرور سلس للعجلات، ولا البلدية تنجح في ملء الحفر التي تغطس فيها السيارات وتغرق وتسد الطرق المسدودة سلفا. ولا سائقو السيارات يتحلون بالصبر والحد الأدنى من الحكمة لكي يسدوا فراغ التنظيم الهائل الذي تركته دولة فاشلة. كل سائق يريد أن يبحث عن "خلاص فردي"، والنتيجة أن الكل ينحشرون في الكل ويبقون فترات طويلة عالقين بلا أي حل، ولا خلاص فردي ولا خلاص جماعي.تسعة أعوام صعبة تمر على "خلاصنا الجماعي" من صدام حسين، ونحن نخفق في تنظيم شوارع في قلب بغداد. 4 أعوام صعبة مرت على انتهاء ذلك العنف اليومي نقلتنا إلى وضع "الأمن الهش والنسبي" دون أن نستفيد منها في تنظيم حياتنا. وسط الباب الشرقي آليات هندسية تقوم بتبليط الشارع منذ شهر ولا تنتهي، وهي حريصة على ان تعمل في الصباح أوقات ذروة الزحام، ولا احد فكر بأن يبدأ العمل ليلا خلال حظر التجوال لحل مشكلة "قلب العاصمة".تسعة أعوام من أنانية المسؤولين ولا مبالاتهم بالجمهور، كرست أنانية كبيرة لدى سائقي السيارات، ولدى صاحب الكراج، ولدى فيتر الورشة الفنية، ولدى عناصر نقاط التفتيش أنفسهم الذين يقولون إنهم يكرهون مسؤوليهم ويصبون جام غضبهم على الأهالي.تسعة اعوام من العراك والصياح بين قادة البلاد وساستها، كرست لدى الناس أسلوبا في التشاتم والعراك والصياح أثناء قيادة السيارات، بحيث يخيل اليك ان الشارع سيشهد حرب شوارع بسبب تزاحم بين سايبا إيرانية وكيا كورية!الوضع الذي يشبه يوم قيامة ما، في أزقة السعدون، كان يرسم روح البلاد وهي ترتبك وتتلعثم في وصف مشاكلها، وتتخبط في إدارة ابسط شؤونها. الأمة التي تعجز عن ضمان مرور سلس للمركبات في قلب العاصمة، عند الباب الشرقي او السعدون، ستواجه صعوبة هائلة في توفير الكهرباء، وستواجه صعوبة هائلة في التنافس مع الأمم المعقدة التي تحيط ببلادنا، وستواجه صعوبة هائلة في الحفاظ على مياه دجلة والفرات أو الدفاع عن ساحلنا الوحيد شمال الخليج.الوضع الذي تراه في شارع السعدون أو الباب الشرقي اثناء الصيف، يخبرك أننا أنانيون نبحث عن مشاريع "للخلاص الفردي" تنتهي مباشرة إلى "ورطة جماعية" لا ينجو منها احد.
عالم آخر : شوارع الورطة الجماعية
نشر في: 16 يوليو, 2012: 07:20 م