احمد المهناالشك يعلم الرحمة. واليقين يعلم القسوة. الشك مطلبُ علمٍ يفتح مدارك الجهل. واليقين طريق جهل يرتدي قناع العلم. الشك غربة تقود الى مسالك الألفة. واليقين ألفة تعبِّد دروب الوحشة.لكي تحكم على الناس، عليك أن تكون واثقا بنفسك كل الثقة، مطمئنا الى صحة رأيك كل الصحة، وراضيا عن علمك بهم كل العلم.
وعندها تستطيع أن تقضي، أن تجرِّم وتبرِّىء، تقسو وتعفو، وصولا الى أن ترتدي حزاما ناسفا وتفجر نفسك بالضالين، الهالكين مزقا بين يديك مرة، وبين يدي الرب عشرين الف مرة. ولعل هذا "الوصول" هو اعلى مراحل اليقين. وبدايته أشرُّ من ذروته. فالبداية هي الزرع والخاتمة هي الحصاد.اليقين مُعَلِمُ القسوة. فأنت لن تتردد في الحكم على الناس الا اذا اقتربت من نفسك أكثر، وحدقت في مراياها، وشككت اكثر لتعرف أكثر تلك الأصول الجامعة بينك وبين الناس. فما من شيء في الآخرين، سيء او حسن، الا وكان له نظير فيك. وأغلب الظن انك ستفزع من نفسك، أكثر مما ستفزع من الاخرين. والفزع من النفس يخفف الأحكام عليها وعلى الآخرين. وهذا هو درب الشك المعلم للرحمة، أو المفضي الى المودة على رأي المعري: "وهونتُ الخطوبَ عليَّ حتى/ كأني صرت أمنحها ودادا / أأنكرها ومنبتها فؤادي / وكيف تُنَكِّرُ الأرضُ القتادا؟".المعري مشفق على الناس كرَبٍّ، يتمنى لهم الكمال مرة، والعدم بتعطيل زينة الحياة الدنيا مرة أخرى:"لو أن كل نفوس الناس رائية / كرأي نفسي تناهت عن خزاياها / وعطلوا هذه الدنيا فما ولدوا / ولا اقتنوا واستراحوا من رزاياها". ويُنسب أصل " رحمة العدم" هذه الى حديث شريف جاء فيه:"يأتي على الناس زمان يكون أروح الناس فيه الخفيف الحاذ". قيل يا رسول الله وما الخفيف الحاذ؟ قال:" الذي لا أهل له ولا مال".المعري معلم الرحمة الأول في الحضارة العربية الاسلامية. وأظن ان العرب قد تهدأ وترحم اذا دخلت عيادته، أو اذا اصابها مسٌّ منه. لقد طالَبَنا بخطوات خفيفة عندما نمشي على الأرض، لأنه رأى التراب مصنوعا من تحلل أجساد الآباء والأجداد. فقال ما قال في رائعته التي تقطر طيبة "خفف الوطء". وقد طالب بالكثير. والقليل من هذا العظيم كثير. العظيم الذي كان الجهل والشك من ألمع افكاره. كان يزداد جهلا كلما ازداد علما. وكان يزداد انسانية كلما فاض شكا. وقد جعل الحيوانات في زمنه تشك في معرفة جنسها، حتى الأسد ذاته ارتاب في أنه الأسد:"وقد عدم التيقن في زمان / حصلنا من حِجاهُ على التظني / فقلنا للهِزَبْر: أأنت ليث؟ / فشكَّ وقال: علي أو كأني!".وهو لم يوقف الشك على زمنه وانما عممه على كل الأزمنة:"أما اليقين فلا يقين وانما / اقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا / مذاهبٌ جعلوها من معايشهم / من يعمل الفكر فيها تعطه الأرقا". وايضا "طلبت يقينا من جهينة عنهم / ولن تخبريني يا جهين سوى الظن". وهو في أبلغ رؤاه "التشكيكية" يُغرقُ العالمَ بظلام دامس قد لا تجد ما هو أكثر تنويرا منه: وبصيرُ الأقوامِ مثليَ أعمى فتعالوا في حِندسٍ نتصادمأهناك عجيب ومدهش كهذا الشعر؟
أحاديث شفوية: من أنوار الظلام
نشر في: 16 يوليو, 2012: 09:56 م