قيس قاسم العجرشللمرّة العاشرة أكتب عن فخ اللغة ومتاهتها التي تبدو فاعلة للغاية ومربحة للذي يجيد استخدامها من اجل الخداع.أول من أدرك هذا المنجم من وسائل الالتفاف هم الحكـّام الذين مرّوا على العراق. وليست مفارقة نعيشها اليوم أن هؤلاء الحاضرين من أولئك الغائبين "وملئكتهم حاضرة" كما يقول العراقي.
تكرار استخدام ذات الخدعة اللغوية هو ليس من قبيل الحركة الدورية للتاريخ وإنما لأن كل جيل جديد من الحكام سرعان ما يكتشف بسهولة كم كانت عظيمة حيلة الأجداد (الحكام طبعا) باستخدام اللغة فخاً سهل النصب.وعلى كثرة ما تم استهلاكه من ألاعيب كلامية فقد أصبحت أخبار"السادة اللواعيب مادة جاهزة للتندر والسخرية بين زملائنا الصحفيين وأيضاً للاستهلاك في ساعات وصفحات البث للأسف، لم يحدث أن مرّ علينا يوم دون أن نصطدم بنكتة جديدة يستولدها مخيال "الفهلوة" لدى السياسيين.قبل أيام مر خبر من هذا النوع يتحدث عن بدء وزارة العدل ممارسة عملية إدارية فذة تسمى"إطلاق السراح المباشر" للمعتقلين، ولنتذكر هنا أن بعضهم معتقل منذ سنوات.طبعاً نحن سمعنا عن "الصرف" المباشر أو "التنفيذ" المباشر أو "النقل" المباشر أما هذه فلم نسمع بها من قبل، وبناء على الخبر فإن إطلاق السراح للمعتقل الذي تثبت براءته سيكون "مباشراً"، يعني مثل النقل الحي لمباريات كأس أمم أوروبا على ما أظن.لكن إن كان هناك من يحتال على الحقيقة عبر اللغة فواجبنا أن نذكـّره هنا بأنها فخ يمكن أن يسقط صاحبه فيه بكل سهولة.لقد دأبت الأجهزة الحكومية منذ أن صار لدينا إعلام غير مسيطر عليه على أن تغرق سوق الأخبار بالغث والسمين، بالمعنى واللامعنى، كومة أرقام تخص المنجزات محسوبة بالسنتيمتر المربع، مثلاً، وهي سياسة أفلحت لحد الآن في صرف نظر المواطن باتجاه"دوخة" مقصودة كي يسأم ويعتنق العدمية واللاجدوى واليأس حين يحاسب الجهاز الحكومي.نظرية سهلة جداً في الشرح والتطبيق.لكن بالعودة إلى النموذج "المباشر"، ليفهم من سمى هذه العملية بهذه التسمية أن هناك من يترصد لفهلوته الكلامية، نسأل هل كانت الأجهزة الحكومية كل هذه المدة تبحث عن دليل "براءة" المعتقل في حين هو يقضي الساعات والأيام والشهور والسنين بعيدا عن أسرته؟ أليس من المفروض أنها تفعل العكس أو أن لديها بيدها ما يرتقي إلى الدليل قبل إلقاء القبض أصلاً على صاحب الحظ العاثر.وهل ضاقت السبل القانونية للإفراج عن المتهم الذي لم تثبت إدانته أي أن براءته هي الثابتة، هل ضاقت حتى احتاجت وزارة العدل لهذا الإجراء "المباشر".ونسأل أيضاً، قبل أن تشرع الوزارة بالمباشر، كم كان على المعتقل (البريء أكيداً) أن يمضي في السجن قبل أن يفرج عنه بصورة "غير مباشرة" يعني عكس الإجراء "المباشر" الذي تتحدث عنه الوزارة والقضاء.لنتصور مدى (براءة) هذا المتهم الذي قضى سنوات في السجن قبل أن يقال له: نعتذر وتفضل أنت حر .. لم نجد ما يدينك.وفق هذا نطالبه أن يحترم القانون وأن يلتزم جانب الوداعة والتسالم حين يتعامل مع دولة القانون التي ألقت به في السجن دون أن تتمكن من إدانته ولسنوات!!ألم يصرف الجهاز الحكومي سنوات وهو يبحث عن دليل يدين المتهم (المفرج عنه لعدم كفاية الأدلة) فلم يجد وبالتالي أضطر للإفراج عنه، ومن هو المتهم بخرق القانون في هذه الحالة؟هذا سؤال "مباشر" فهل سنجد إجابة "مباشرة" له؟
فهلوة الكلام.. بالمباشر
نشر في: 17 يوليو, 2012: 07:56 م