TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > عندما يصمت الملاك في مسرح شكسبير

عندما يصمت الملاك في مسرح شكسبير

نشر في: 18 يوليو, 2012: 07:12 م

د. فاضل سوداني يصمت الملاك في مسرح شكسبير الشعري دلالة لرفض العالم وعنفه وقساوته، فكل شيء في هذا المسرح الشكسبيري له تأويله الغني، وليس هنالك فائض لا على الورق ولا في ما يمنحه النص من رؤيا إخراجية، لذا علينا أن نبحث عن جذر الأشياء والكلمات والأفكار التي يستفزنا بها هذا المؤلف الذي كتب مسرحياته  واكتفى بالصمت مبكرا ليتأمل العالم وردود أفعالنا إزاء مسرحه. الصمت، التأمل، الرحيل، ثلاثة أشياء لها تأويلها الشكسبيري الخاص .
وهكذا يكرر شكسبير كلمة السفر وهو يعني الأعمق بهذه العبارة، فالذي يسافر يرحل ، انه سافر ، رحل  أي ينتقل من مكان إلى آخر، والإنسان يتردد كثيرا ويمعن التفكير قبل السفر أو قبل أن يقوم بمغامرة ما قد تؤدي إلى الموت، فاحتمال حدوثه وارد، لذا ففي النص الشكسبيري المعاصر دائما ، إذا سافر الإنسان فانه ينتقل من الدنيا إلى الآخرة أو إلى أي عالم مجهول آخر لا نعرفه. والإنسان المسافر الى مثل هذا العالم لا يحّمله شكسبير احتياجاته اليومية الغريزية  وإنما  يجعله كمن يحمل تابوته على ظهره ، ها هو التأويل الجديد فالإنسان يسافر من الدنيا ولا يأخذ معه سوى تابوته ، انه  سيسافر  إلى عالم رآه شكسبير تخيلا ولم نره نحن .وحتى لو سافر البطل إلى مكان ما من العالم فان حياته في هذا الانتقال تتغير جذريا ، وشكسبير يفضل ان تبقى شخوصه في مكانها إنها تتغير وتتدمر وتهبط الى  قاع الحياة او ترتفع الى أعلى درجاتها ، ولكن عذابها والسوسة التي تنخر فيها تعيش معها . ولنتذكر ماكبث وريتشارد الثالث وكلوديوس فس هاملت ، إنهم انتقلوا من درجة حياتيه إلى اخرى وهم يعرفون مصيرهم المحتوم، انه شكسبير الذي يلعب بالمصائر ومنها مصائرنا نحن أيضا. أنه القادر على اختراق الزمن ليضلنا وكأنه يعيش بيننا ليهمس لنا عما يقلقنا . إن  موت اوفيليا ( في مسرحية هاملت ) تلك الطفلة الجميلة الملتاثة بالحب وندى الصباح  الباكر يجعلنا تعساء حقا ، ولهذا فان قدرة شكسبير وخاصة في المشاهد بين هاملت واوفيليا تجعلهما يعبران حركيا عكس ما يقولان، إذ كانا يعبرّان من خلال لغة جسديهما عن السؤال الجوهري في الحياة، وهو سؤال عن الحب والموت في الآن نفسه، فهما يبصران موتهما المستقبلي والمبكر، وبالرغم من امتلاء هذا المشهد بدفق التأويل الفلسفي والحياتي إلا أنه يمنح الفكر الإخراجي غنى وطاقة تعبيرية كبيرة تحتاج إلى المخرج البصير.ففي أحد عروض هاملت التي حضرتها للمخرج اللتواني ايمونتاس تكغوسيوس كانت تثير الاندهاش في الكثير من التخيلات الإبداعية  فهوراشو عندما يخبر هاملت بظهور الشبح ، يبدأ هاملت بتمزيق قميصه الذي جعله المخرج  من الورق ، واوفيليا التي تغّزل بها وبموتها الطفولي الكثير من الشعراء ورسمها الكثير من الفنانين، يجعلها تدخن الغليون بعد أن تخطفه من أخيها لايرتس هل هي طفلة بريئة أم عذراء لعوب ساخرة، أم مراهقة فرحة بجمالها وشبابها.. يبدأ المشهد بين هاملت وافيليا على شكل مزاح على طريقة إعادة الحياة للغريق تنام هي فينفخ هاملت في فمها وبالعكس تنفخ هي في فم هاملت وهكذا كالأطفال في حديقة غناء من الفرح. فمن خلال هذا المزاح نستطيع ان نكتشف تأويل المخرج المهم في نقطتين هما:  توضيح طبيعة العلاقة بين افيليا وهاملت التي يكتنفها الحب الصادق  والبراءة، والنقطة الأخرى أن ما يوحي لنا بالإنقاذ او إعادة الحياة من خلال الحركة والرؤيا الإخراجية هو تأويل لمستقبل الأحداث أي ان هذه الحركة هي تأكيد مبكر لموت اوفيليا غرقا في المستقبل ؟ إذن حيوية الحركة وديناميكيتها تمهدان لضدهما وهو السكون أو الموت .ولذلك فالمخرج اللتواني مهد لموت افيليا بالفرح المشوب بالعنف وعبر عن هذا الفرح برقص عنيف مشوب  بالبراءة على إيقاع  تصفيق الرقصات الفولوكلورية الروسية العنيفة ، وأشعرنا أيضا بان اوفيليا ترقص رقصتها الأخيرة كالطير الذبيح وعندما لامست أوفيليا شرور العالم ـ والذي لم تفهمه ـ صمتت لكنها انفجرت أمامنا بجنونها وجعلتنا نشعر بالذنب إزاء مأساتها، وبالخوف من دناءة العالم. وهذه هي إحدى القدرات الدرامية الشكسبيرية .  وحتى يعمق المخرج تأويل الاسطوانة الحديدية الضخمة ذات الأسنان التي علقها  في فضاء العرض كدلالة على الموت فانه يجعل لايرتس يحمل حاجياته او حقائب سفرة على ظهره كتابوت ويسير أمام أوفيليا وكأنه يريد أن ينبئنا بموتها المبكر. وعندما تقص افيليا على والدها بولونيوس طبيعة العلاقة بينها وبين هاملت  يأمراها أن تمتنع عن مقابلة هاملت وان ترد له هداياه وألا تأخذ كلامه المليء  بالحب تجاهها محمل الجد، وان هداياه التي منحها لها كميثاق حب، لا تعني شيئا بنظر بولونيوس ، لأنه بعد ذلك سيفسر سبب تحولات هاملت بأنه جنون لعشقه أوفيليا .فبولونيوس على خلاف هاملت منسجم مع حياته وعالمه ومفهومه عن نظام الملك (مُـغتَصبْ الحكم) وبهذا فانه ينسى المحنة الحقيقة لهاملت والتي تكمن في الأساس في اختلال موازين الحياة والإنسان:(بولونيوس: أتعرفني يا مولاي؟هاملت: أعرفك تمام المعرفة. أنت بياع سمكبولونيوس: كلا يا مولاي هاملت: إذن ليتك كنت شريفا مثله بولونيوس: شريفا يا مولاي؟هاملت: نعم يا سيدي. فالشريف، وهذه الدنيا على ما هي فيه واحد من

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

مطلع الشهر المقبل.. انطلاق معرض العراق الدولي للكتاب

مطلع الشهر المقبل.. انطلاق معرض العراق الدولي للكتاب

بغداد/ المدى تنطلق فعاليات الدورة الخامسة من معرض العراق الدولي للكتاب، في الفترة (4 – 14 كانون الأول 2024)، على أرض معرض بغداد الدولي.المعرض السنوي الذي تنظمه مؤسسة (المدى) للإعلام والثقافة والفنون، تشارك فيه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram