ناظم محمد العبيدي استطاع العقل العلمي أن يتجاوز التوهان في ظواهر الحياة وربطها بقوانينها الشمولية ، وبهذه الرؤية يمكن الخروج من التخبط بنتائج دقيقة ، لكن ما يجري عندنا هو الفوضى الذهنية التي درج عليها العقل البسيط ذو التوجهات الانتقائية ، فلا يمكن العبور من مقدمة ما إلى حقيقة كلية تغنينا عن البقاء في دائرة واحدة ، ولهذا تبدو الحقائق لمن اعتاد أن يجزّئها دون النظر إلى علاقاتها مع بعضها كوحدات منفصلة، فهو مشغول بذلك الجزء وتفاصيله ولا يكترث لعلاقته مع الأجزاء الأخرى ،
ويمكن تلمس الجانب البدائي في هكذا آلية ذهنية كما يقول علماء الأنثروبوجيا ، حين كان الإنسان في العصور السحيقة الأولى لا يفرق بين ذاته وبين مكونات الطبيعة ، فقد غابت " أناه " ولم يعرف القوانين الكلية التي تحكم الطبيعة من حوله ، فراح يغرق في خضم أساطيره بدافع الجهل والخوف من مجاهيل هذا العالم من حوله ، بيد أن العقل الحديث وبعد أن تراكمت لديه المعرفة تجاوز قرون الجهل وتمكن من صنع أعظم حضارة عرفتها البشرية ، بصرف النظر عن الجوانب السلبية التي رافقتها طبعاً ، وصارت النظرة التحليلية إلى مظاهر الوجود هي السمة الأبرز ، ومن المثير حقاً أن جمهورا واسعا في مجتمعات العالم الثالث مازالت تحيا وهي تحمل تلك التصورات القديمة ، والنظرة المجتزأة إلى ما يحيطها من ظواهر ، فما زلنا ننظر إلى تفاصيل حياتنا اليومية دون الوعي بتأويلاتها المنطقية ، فكيف نقرأ حادثة مثل إهمال الرجل العسكري الذي يمثل النظام العام للدولة وهو يقف في السيطرة متحدثاً بهاتفه المحمول مثلاً ؟ يفعل ذلك مشيحاً بوجهه بعيداً عن طابور السيارات الممتد ، وهو يضحك مع محدّثه الغائب الحاضر ، هاهنا تختفي الدلالة في العقل الانتقائي لهذه الحادثة ويصبح الموضوع بكل ما ينطوي عليه من مفارقات محصوراً بهذا الشخص تحديداً ولا يرتبط بأي شيء آخر ، مع أن واقع الحال يشير إلى معنى آخر جعل العسكري في حالة من اللامبالاة بالناس الذين كانوا يراقبونه في نفاد صبر ، وربما بكثير من الحقد ، إن الغاية من السيطرة تلاشت وحل مكانها الفعل المجرد " الروتيني " ، حيث تبرز حقيقة أننا نؤدي أفعالنا عادة ـ وفي سياق عام مشجع على نمط متكاسل ولا مبالٍ ـ لا بدافع تعززه القناعة الذاتية أو حتى احترام للقانون ، بقدر ما نسعى إلى إدامة الشكل المطلوب منا ، ذلك الشكل المراد إيجاده بديلاً عن الحقيقة الغائبة " التفتيش بحثاً عن المتفجرات أو ما يسيء إلى الأمن " ، والحقيقة أن الأشخاص يتصرفون ـ علموا بذلك أم لم يعلموا ـ بحسب تأثيرات المحيط الذي هم فيه ، ويخضعون بالضرورة لمتطلبات وجودهم داخل تلك الشبكة من العلاقات ، فالفرد الموجود في أي مكان من العالم محكوم بتلك الشبكة والتي تحمل مسميات : القانون ، التقاليد .والغريب أن ظاهرة الانتقائية في التفكير عندنا هي السمة السائدة ، وربما كانت وراء الفشل المرافق للكثير من المشاريع التي تسعى إلى الإصلاح أو معالجة الأخطاء ، لأن العقل التجزيئي لا يلتفت إلى جذر المشكلات ويظل مسجوناً في مظاهرها الخارجية ، ومن المفيد هنا أن نشير إلى ملاحظة الفيلسوف " برجسون " عندما تحدث قبل قرن من الزمن إلى طبيعة العقل الإنساني ، وكيف يوقف ديمومة الحياة التي هي في جريان متصل عند نقطة ما لكي يتمكن من رؤيتها ودراستها ، وهذه تقنية مفيدة إذا استطاع الإنسان أن يتجاوزها إلى ماهو أبعد ، أي النظر بطريقة كلية إلى أية ظاهرة ولا يكتفي بالوقوف عند تبدياتها الخارجية ، ولأننا أدمنا النظر بتلك الطريقة المضيعة للمعنى ، والإكتفاء بمظاهر الأشياء فقد صنعنا الكثير من الاتحادات والمؤسسات والتجمعات والتشكيلات ، ولكن ماهي محصلة كل ذلك؟
الرؤية الشمولية
نشر في: 19 يوليو, 2012: 06:33 م