علي وجيه (1) يذهلني مقدار الفقدان الذي نمرّ به يوميّاً حين يتسربُ من بين أيدينا أشخاص لا مجال لتكرارهم ، وأقول هذا ليس بمعرض المجاملة والكلام البارد والرثاء الذي يتبعُ كلّ راحل ، لكنّ هناك شخصيات تحملُ من الاختلاف وغرابة التشكّل الشيء الكثير لتكون جزءاً من "سينوغرافيا" العرض البشري الذي نمارسه يوميّاً دون وعي.
rn(2)رحل نعيم الشطري ، كما كان مُتوقّعاً مُنذ أكثر من سنتين بسبب المرض والشيخوخة ، والشطري بائع كتب، لكنه ليس بائعاً اعتياديّاً، فهو من جهة يبيعُ بطريقة المزاد [التي توقّف عنها مؤخراً]، ومن جهةٍ أخرى يمثّل مكانه الذي يبيع فيه سرّة شارع المتنبي ، في الوسط تماماً ؛ ما حوَّل هذا المكان إلى لقاءٍ مُستمرّ بينه وبين عددٍ من الكتّاب الكهول في الشارع..أذكرُ أنني ذات مرّة ، حملتُ كاميرتي لإجراء حلقة تسجيليّة عن الباحث والموسوعي زهير أحمد القيسي (مدّ الله في عمره) ، وكان الشطري واحداً من المُتحدّثين في هذه الحلقة ، حتى وإنْ كان غير مُنظّمٍ تأريخيّاً أثناء الكلام لكنّ له ذاكرة ، يحسده عليها كلّ مَنْ رآه ، فهو عاد بي إلى لحظة تعرّفه بالقيسيّ ، وإلى أهميّة مؤلفاته واحداً واحداً ، وحين كان يتحدثُ عن كتابٍ يذكرُ أهمّ الخطوط العريضة ثمّ يذكر اسم الدار التي طبعته وعدد الصفحات أحياناً..(3)بيع الكتب شأنٌ ، وأن يكونَ البائع صوتاً للشارع هذا شأنٌ آخر..دائماً ما يُنادي البائع لبيع بضاعته ، لكنْ أن يقرأ بائعٌ الشعر لروّاد الشارع : هذا ما لم يفعله إلاّ نعيم الشطري فقط لإضفاء الجمال على المساحة الخاصة به من هذا الشارع المُذهل ، حيثُ يقفُ الشطري وراء الطاولة التي تحملُ كتبه، وبصوته العالي ، يقرأ الشعر ، يصوّره البعض بهواتفهم النقّالة ، ويستمعون للبيت أو البيتين ثم يمضون...دوما ما كنتُ قريباً من "بسطيّة" دار الجمل ومازن لطيف اللتين تجاورانه، كان يُركّزُ على عددٍ من الأبياتِ دون غيرها، مثل أبيات مُجتزأة وشهيرة لمحمّد مهدي الجواهري من قصيدته (في مؤتمر المحامين): سلامٌ على مُثقلٍ بالحديد ويشمخُ كالبطلِ الظافرِ كأنّ القيودَ على معصميه مفاتيحُ مستقبلٍ زاهرِ..ولا تمضي نصف ساعة حتى يقوم الشطري من كرسيّه ومن بين أصدقائه ليقرأ شيئاً من قصيدة نزار قبّاني عن بغداد: مدّي بساطي وإملأي أكوابي ، وانسي العتابَ فقد نسيتُ عتابيعيناكِ يا بغدادُ منذ طفولتي شمسانِ نائمتان في أهدابيلا تنكري وجهي فأنتِ حبيبتي وورود مائدتي وكأس شرابيآخرَ مرة سمعتُه فيها يُلقي الشعر كانت قبل شهر أو نحوه ، قرأ أبياتاً أجهل قائلها ، و عند وصوله إلى شطر البيتِ الأخير : بكى ، وصفّقوا له مع صوته المبحوح: مَنْ ذا أصابَكِ يا بغدادُ بالعينِ، ألم تكوني زماناً قرّةَ العينِ؟ ألم يكن فيكِ قومٌ كان مسكنهم ، وكان قربهمُ زيناً من الزينِ؟ صاح الغرابُ بهم بالبين فانقرضوا ماذا الذي فجعتني لوعة البين أستودع الله قوما ما ذكرتُهمُ إلا تحدر ماءُ العينِ من عينيويتحدثُ الشطري أيضاً ، بلوعةٍ يمزجُها بالكوميديا، بيتاً من الدارمي الشعبي الدارج ، يقرأه وهو مُبتسم : كُلْ اليكَلَّك "زين" كَِلَّهْ انتَ جذّاب "الشطري" صار اسبوع ما بايع كتاب..!وهو بالحقيقة لم يكن بائعاً بالمعنى التجاري الدقيق، أكثر من أنّه كان صاحب تأريخٍ نضاليّ يساريّ شهير، وكأنه يجلسُ في المحلّ الصغير لتقضية الوقت، فلم نره ذات يوم يجلبُ كتاباً من الخارج، ويستنسخ آخر، بل على العكس: ان مَنْ يمرّ بالشارع ينظرُ إلى جميع البسطيات بينما لا ينظر الى بسطيّة الشطريّ، ينظرُ للشطري نفسه !..(4)اعتقل الشطريّ كثيراً بتهمة "الشيوعيّة"..أمضى عاماً ونصف العام في سجن الكوت مع أسماء مشهورة، وحين عاد إلى محلّه لبيع الكتب كان يُعتقلُ بين فترة وأخرى، مرةً يجدون لديه (نعم أنا يساري) لـشاكر السماوي، ومرةً أخرى يجدون كتب ماركس، وأحياناً الخميني، وكأنه صار مصدراً لكلّ ممنوع باختلاف الآيدلوجيات، بل ان بعض الباعة قاموا بعد انفجار الشارع عام 2007 بحرق عدد كبير من الكتب أمام مكتبه لإيصال صوتهم إلى مَنْ هُمُ فوق !.(5)ينفرطون كما قلتُ ...وتنفرطُ السينوغرافيا الهائلة التي تشكّل ملامح شارع المتنبي تدريجيّاً ، ويبدأ بفقدان "الطعم" الخاص رغم بقاء مكتباته وازدهارها، الرجلُ الطريف، صاحبُ اللازمة الجميلة "جُريك بن كُعيْك البقصمي" ، صاحب الصوت الواضح والأبيض رحل ، وخلى الشارعُ من بائعٍ يقرأ الشعر ويبيعُ الممنوعات باستمرار من بعده!.ينفرطونَ ؛ وننفرط..
عن الشطري: ينفرطونَ وننفرط..
نشر في: 19 يوليو, 2012: 06:42 م