احمد المهنامن بين اختبارات تجريها كلية إدارة واقتصاد في لندن، لقبول طلبات الدراسات العليا، هناك هذا السؤال: لو طلب اليك دعوة ثلاثة أشخاص من أي زمان أو مكان الى مائدة عشاء فمن تختار؟ الجواب مشروط بخمسمئة كلمة في الحد الأقصى.
ويعرف كل متقدم الى الدراسة ان مختار الرابحين خسران. بمعنى انك اذا وضعت على قائمة مدعويك ثلاثة ممن لا يختلف في عظمتهم اثنان، شأن غاندي، فان الجواب ليس هو المأمول، وان كان صحيحا. فهم يريدون أن لا يكون العالم أهلا ببضعة أفراد فقط، استثنائيين شأن نموذج "سوبرمان". ولكن أساتذة الاختبار يهشون ويبشون كلما كانت الشخصيات "عادية"، من أهل الله، لم يسمع بها أحد، على الأقل للتنويع.ان حكمة السؤال هي ان العالم، على كل بلاويه، هو ايضا مكان صالح وطيب وجميل. ويستحق بالتالي أن يعاش. أما اذا اقتصر من يعجبك فيه فقط على النماذج المعروفة للقاصي والداني، فانه عالم ضيق على سعته، فقير على غناه، بل وأكثر من ذلك شرير وخبيث وقبيح .أنه سؤال يدحض فكرة سوبرمان، ويعتبرها فكرة نابعة من اليأس، ومعبرة عن التشاؤم من الجنس البشري. فقد اختار مخترعها ان يكون البطل المدافع عن الخير قادما من كوكب آخر، لأنه فقد الأمل بكوكب الأرض وأهله. وكل "الكبار" في التاريخ، الذين نعدهم القدوة، ورغم أنهم عاشوا مثلنا وبيننا، يبدون لنا مثل سوبرمان، لتمتعهم بقوى خارقة لا نملك مثلها.ولكنهم في الواقع ليسوا كذلك. انما هم صناعة آخرين كثيرين، أبسط منهم، وكان هؤلاء البسطاء لاولئك الكبار مثل الأحجار والصخور التي تتشكل منها الجبال. فلولا وجود المئات والآلاف والملايين من الرجال والنساء لما تكوَّن سقراط، أو المعري، أوغاليلو، أو مانديلا، أو شكسبير، أو محمد يونس، أو بيكاسو، أو كانط، أو نجيب محفوظ ، أو جواد سليم، أو باخ، وكل القمم التي تتألف منها سلسلة الجبال البشرية.هناك رجل معروف في قرية نائية، مجهول في بقية أرجاء المعمورة، وتصادف أنه مهوى قلوب أهل القرية، لأنه كان يتمتع بروح دعابة فريدة من نوعها، وكان يخفف بها من معاناة خلق الله من حوله. فهل هذا دور قليل؟ ثم هناك ذلك الموظف الذي دخل سلك الخدمة وخرج منه بعطاء متواصل دون منة ولا زلة، وقد مر على الأرض كأنه حلم. هل تذكرون؟وكان بين المدعوين الى مائدة عشاء أحد المتقدمين الى الدراسة في تلك الأكاديمية "لقيط" باكستاني، عرف بهذه الصفة "المنبوذة" مقرونة الى اسمه. نقل الطالب حكايته عن الجد. وهناك سببان وراء دعوة الطالب له، أولا رعاية أهل الحي له جميعا رعاية العائلة، ثم مبادلته لهم الفضل بعدما كبر، بوضع عضلاته المفتولة في خدمة كل محتاج أو محتاجة اليها من ضعفاء الحي."الخدمات"، على أهميتها، ليست الأسباب الوحيدة لاختيار المدعوين. هناك الأفكار والمواقف والممارسات والأعمال والأدوار الطريفة، أو المبتكرة، أو المتميزة، أو المتقنة، أو الحزينة، أو الشجاعة، التي يفاجئك بها رجال ونساء وشباب وشابات ليسوا مسجلين بقوائم العضوية في نوادي الشهرة، ولكنك تعرف، اذا كان لك قلب، أنهم ملح الأرض.ولسوف يكون العالم مكانا أفضل اذا طابت مائدة كل شخص بثلاثة أشخاص!
أحاديث شفوية: مائدة لثلاثة أشخاص
نشر في: 20 يوليو, 2012: 05:14 م