سرمد الطائيفي طفولتي كانت عائلتنا لا تصوم، فهي مكوّنة من والدين ابتليا بالمرض مبكرا، و3 أطفال، لكن رمضان كطقس ظل حاضرا في كل تفاصيلها. الوالدة تستعيد حيويتها في رمضان وتصنع الفطور وتبعث بأطباق منه إلى الجيران. رائحة نومي بصرة وعصير التمر الهندي وحلاوة الطحين المحروقة في القدر، تعم أرجاء المنزل.
أما في ليلة "القرقيعان" كما نمسيها نحن والخليجيون، أو "الماجينا" كما تسمى في وسط العراق، فلا احد ينام حتى الصباح، والجميع يعود بغنائم من المكسرات والحلوى.ولرمضان خانة أثيرة في خزانة الذاكرة تفوح برائحة كل مرحلة على حدة. رمضان الحرب الإيرانية، جاءنا مرة ونحن مهجرون من القصف المدفعي في بيوت غير مكتملة على أطراف صحراء "الزبير". يومها اضطر بعض الكبار إلى الإفطار بسبب التشرد الحربي هذا. احدهم أفطر بسخرية وهو يسمع قذائف تمطرنا برشقات لا تنقطع، وقال: من منها مدفع الإفطار يا ترى؟رمضان شهد نماذج عديدة من تشردنا. رمضان مخيمات اللاجئين في إيران، كان برائحة تشريب العظام الخالي من اللحم والذي راح يصنعه النازحون عام 1991 وما تلاه، كبديل للفقراء عن الأطباق التقليدية. وهناك تواشيح فارسية عثرت عليها في يوتيوب فجر اليوم، تحمل كل ذاكرة الصيام في بلاد فارس، وعلى إيقاع الأوراد، أسترجع صور النازحين وهم يبكون بمرارة عند الفجر، ضياع وطن وفراق حبيب، وقدرا جاء بهم إلى "لا مكان".رمضان الحرب الأهلية في العراق، كان بطعم الدم والانهيارات الأمنية العنيفة. حظر تجوال طوعي يبدأ عند العصر، وانقطاع للتزاور، وصمت مفاجئ يلف مولدة الأحياء الساخنة حين يبدأ الرصاص بالانهمار.حاليا أعيش في عائلة نصفها يصوم فقط، فهي متكونة من شخصين أنا وزوجتي التي تلتزم بطقوس الدين بحذافيرها أثناء رمضان. وحين أتابع حركتها بشغف قبيل أذان المغرب أدرك أن الطاقة الروحية في الأديان الكبرى تعيد صياغة المجتمع وذكرياته، وتنشئ تقاليد وفلكلورا في وسع الجميع تحسسه، ويظل الناس يتوارثونه ويطورونه.وبقدر ما كانت المجتمعات بعيدا عن التشدد، فإنها ستكون قادرة على تسويق الجزء الاجتماعي من الطقس الديني، خارج دائرة المؤمنين والى ما وراء محيط الانتماء الديني، ولعل أعياد الكريسماس مثال واضح على هذا، حيث يحتفل به الجميع من أقصى آسيا حتى تخوم الفلك الأطلس.لكن التشدد في الدين يهدد سحر هذه الطقوس. وضرر التشدد يبدأ بأهل الدين أنفسهم فيمزق وحدتهم ويشعل نيران فتنة غير منطقية تتعمد بالسيوف والدماء. ورمضان هذا العام بطعم الحروب الداخلية أيضا، وحين اشتعلت سوريا اشتعل الشرق الأوسط بأسره. والتعليقات التي تسمعها من هذا الطرف او ذاك، تحكي بمرارة اننا وصلنا الى أسوأ حالات السلم الأهلي، في دار الإسلام.رمضان هذا العام سوري بامتياز، سنبقى نتذكره طويلا. وفي الغالب فإن الطرف المساند للثوار غير قادر على عدم شتم الشيعة، كما ان الطرف الخائف على مصير شيعة المنطقة، غير قادر على ادانة استبداد دمشق ودمويتها.كعرب نتذكر أسوأ أيامنا ونحن نتابع مأساة السوريين. وكعراقيين نحدق حيارى في حدودنا الطويلة مع الشام، نشاهد العراقيين يعودون جثثا وقوافل لاجئين بلا مأوى في الوطن، ونسمع أنين السوريين الذي لم يتوقف منذ شهور طويلة، ونقف مكتوفي الأيدي بالطبع.رمضان هذا العام بطعم الفشل في التعبير عن أنفسنا، كشركاء نعيش على ارض واحدة نسجت كل الطقوس التي نحب ونتشارك عبقها ومعناها. ذاكرة الطقس المشترك يختبر بقسوة قدرتنا على تدوين صيغة التعايش بيننا كمختلفين في العرق والدين والفكرة، وكأن التاريخ يسخر من فوضى إدارة الخلافات في موطننا نحن أهالي العالم القديم. وهل أمكن للتشدد يوما أن يصنع السلام؟رمضان هذا مطالب بأن يضع على طاولتنا إجابات كثيرة لأن الوقت ينفد، ويحسن بكل من سيتضرع الى الرب، ان يطلب تجنيبنا ما هو اسوأ من "الملاحم والفتن" وسأحاول التوقف عند هذه في وقت لاحق.
عالم آخر: طعم رمضان هذه المرة
نشر في: 21 يوليو, 2012: 09:13 م