أ د. نجم عبد الله كاظم (1)قبل أقل من سنة من إكمال عمر المئة توفي روجيه غارودي، أو رجاء غارودي، لينطوي، ولكن دون أن يموت بالتأكيد، تاريخ من الثقافة الغربية العريقة والجهود الاستشراقية غير العادية والنضال الإسلامي الفريد وغير النمطي الذي جسده هذا العلم الفريد من نوعه.
وفي ظل هذا الثالوث الحضاري والثقافي يأتي مقالي القصير هذا لأتوقف عند علامات لا يمكن لعين أن تخطئ تميّزها وفاعليتها، كلُّ علامة في مجالها. ومع أنني لم أكن، وقد رأينا ثالوث إسهاماته، لأتجاوز إنسانيته وإنسانية ثقافته الغربية، وإسلامه ومعاداته الصهيونية، فإنني سأنظر، انطلاقاً من تخصصي في الأدب المقارن والاستشراق وما يتعلق بهما، إلى أهمية غارودي بوصفه مستشرقاً، وتحديداً ما يثيره الاستشراق من خلافات ونظرات متناقضة تتوزع ما بين التحمس له، ومعاداته، والنظرة الموضوعية إليه. يشيع بين الناس العاديين، والمثقفين، بل الدارسين وبعض الأكاديميين، أسلوب التعميم والحكم سلبياً على الآخر بلداً أو مجموعةً أو حزباً أو طائفةً أو فرداً، لاسيما حين يُختلف مع هذا الآخر في شيء ما، أو يُشخّص فيه ما يُرى على أنه تعدٍّ أو خروجٌ على الثوابت أو كفرٌ أو حتى مجرد مخالفةٍ. فهنا إذا كان مفهوماً مثلاً- ولا أقول مقبولاً ونتفق معه- موقفُ البعض الرافض أو حتى المعادي لأشخاص مثل أدونيس مثلاً، وهو يسعى، في سنواته الأخيرة، إلى تدمير كل شيء قيماً أو مُثُلاً لا تتفق مع رؤيته، وإلى رفضِ كل موروث، وإلى الدعوة إلى هدم كل ما هو قائم من الهوية والتراث ثقافةً ومجتمعاً وديناً، فغير مفهوم أن يكون مثل هكذا موقف متطرف تجاه آخرين قد يُختلف معهم في شيء بعينه، كما فعل ما فعله البعض مع نجيب محفوظ، ونوال السعداوي، وحامد أبو زيد.. وآخرين. هذا الأخير ينسحب على الاستشراق والمستشرقين، مما، إذا ما وجدنا له (تبريراً) عاطفياً وانفعالياً ظرفياً، فإننا لا نجد له تبريراً علمياً وموضوعياً. هنا، وإزاء هذه النظرات المختلفة التي نشأت بسبب ما قدمه بعض المستشرقين للتراث والثقافة العربيين والإسلاميين من خدمات، وما ألحقه الكثير منهم من إساءة إليهما، أتبنى شخصياً، في كتاباتي وفي تدريسي (الاستشراق) في الجامعة، الموقف الذي أراه صائباً والمتمثل في أننا يجب أن ننطلق في التعامل مع أي بحث استشراقي، وبسبب إساءة الكثير من المستشرقين، كما قلنا، لا من الرفض المسبق، بل من التحفظ إزاءه، ونحن نعلم أن هناك من المستشرقين من دخل الإسلام وربما انصهر في ثقافته والثقافة العربية، أو على الأقل خدم العربية والعرب والإسلام، مثل الألماني فلوجل، والإسكتلندي ديفيد كاوين، والفرنسي روجيه غارودي موضوع مقالي هذا.(2) لم يأت إنصاف غارودي من فراغ ولا من حال غير جوهر الحال التي عرفناه فيه وهو مسلم، بل هو تدرّجَ من المسيحية الكاثوليكية ولادةً وتربية، إلى الشيوعية إيماناً وانتماءً وهو شاب، فالماركسية إيماناً، بدون انتماء للشيوعية، فمقترباً ماركسياً مسيحياً، فانتهاءً إلى الإيمان بالإسلام ليصير مسلماً عام 1982 وهو في سن السبعين تقريباً وبما يعني أن إسلامه جاء قناعةً وإيماناً وفهماً ناضجاً لما آمن به ودخل فيه، ولهذا هو لم يصر مسلماً فقط بل مفكراً إسلامياً على ما في فكره من مواضع خلاف واختلاف مع آخرين. ومن المهم تعلقاً بهذا أنه قد عُرف بمعاداة الصهيونية، خصوصاً بعد مجازر صبرا وشاتيلا، وأكثر من ذلك برؤيته الخاصة لمحرقة اليهود التي مع أنه لم ينكرها ولم يكن ليفعل ذلك، قد أنكر المبالغات حولها، كما عبّر عن ذلك في كتابه المهم "الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل"، وهو الموقف الذي قاده إلى المحكمة والحكم عليه بالسجن سنة مع وقف التنفيذ. وقد أشّر ذلك مساراً جاداً ومطّرداً نحو ما سيكون عليه غارودي بعد حين. وهكذا كانت خطوته التالية نظرته المهمة إلى الإسلام على أنه دين شامل، ولا نريد أن نقول شمولياً لكي لا يُفهم منها ما يفهم حين تُطلق في السياسة، كما هو معروف، على بعض الأنظمة الأحزاب. وأهمية هذه النظرة أنها تعبر عما عجز الكثير من المسلمين، دعاةً ورجالَ دينٍ ومفكرينَ، عن التعبير عنه كما يجب. ومن كتبه التي تعبّر بدرجة ما عن هذا كتاباه "عود الإسلام" و"الإسلام يسكن مستقبلنا". وهكذا فإيمان غارودي بالإسلام لم يكن إيمانَ اضطرارٍ ولا إيماناً ظرفياً ولا إيماناً عاطفياً، بل كان إيمانَ فكرٍ واقتناعٍ عقلي بحت. ولذا كان طبيعياً، وبخلاف الكثيرين ممن يدخلون الإسلام حديثاً ليصيروا إسلاميين متشددين، جاء اعتداله وإيمانه بما يراه جوهر الإسلام، وهو ما لم يتوافق مع الكثير من التيارات الإسلامية ومتشدديها وأصولييها، بل هو ذهب بعيداً في هذا ليجد مشتركات وربما تقاربات، ما كان لغيره أن يقول بها بالشكل والجرأة اللذين قالها بهما، ما بين الإسلام والكاثوليكية والماركسية، مما يبدو للكثيرين غريباً، وما هو بغريب عندنا.(3) والآن، وفي العودة إلى الاستشراق، أجد أن أهم ما يُ
روجيه غارودي .. مفكراً غربيـــاً، واستــشراقياً، وإســـلاميــاً
نشر في: 22 يوليو, 2012: 06:23 م