حكمت البخاتي الدولة حقيقة لا نشاهدها بذاتها لكننا نشاهد آثارها نتحسس وقعها في واقعنا لذلك تكاد أن تكون حقيقة علوية حين نستدل بأثرها عليها لعل غيب حقيقتها هو الذي يدعونا إلى التفكير بقداستها بعظمتها بقدرة الرفض الكامنة في أعماقنا على خيانتها وحتى لا ترتقي إلى الغيب المقدس في أدياننا فإننا ننعتها بالمعنى المقدس لها ،ويبقى المعنى شكلاً من الغيب يقابل التجريد في معنى الدولة الذي ننساق إليه عبر ضرورته أو ضرورتها أي الدولة، إنه اللامشاهد لكنه المحسوس
في نفوسنا الملموس في واقعنا، إنه مجرد شكل من الغيب لا يدخل جوهر الغيب وموضوعه وإن حاولت النظرة التقليدية القديمة للدولة أن تعتبرها قدراً إلهياً واختياراً فوق قدرة البشر أن يمارسوه فمنحوا للدولة سلطة لا تعارض وحقاً في السلطة يقابله في المعادلة الإلهية القديمة واجب الطاعة، فالملوك أنصاف آلهة أو أبناء آلهة أو هم وكلاء آلهة والبعض اعتبرهم آلهة.لكن في المعنى الحديث للدولة فإنها صارت إرادة الكل، تجسيد إرادة أمة وهو معنى يبقى مجازياً- تأويلياً مثمراً وبنّاءً لكنه في غيب كهنوت الحقيقة.لماذا نحرص على أن نصف الدولة إنها دون إلهي حتى نتخلص من سطوة المقدس في السياسة، لماذا نحرص على أن نصفها بأنها فوق بشري حتى نمنع تدنيس السياسة لها، فالدولة ليست مجتمعا سياسيا أو مجرد تنظيم سياسي فحسب، من أجل أن نمنع التلاعب بها وفق مشيئة بشرية ضالّة ،كذلك فإنه ما يمكن فيها من انبساط العدل والمساواة بعد ذلك، هذا المعنى المجازي – التأويلي يبقى موسوماً بسمة الفكر الذي ابتكره أو أضفاه على واقعة تأريخية من وجهة نظره هي الدولة أو قد يكون اكتشفه إنه الفكر الغربي الحديث ،لكن حين كف الغيب عن تدخلاته في هذا الفكر منذ حركة التنوير وسعي الحداثة نحو تجاوز، الوحي، الدين ،فإنه لم يتجاوز مداخلته فيما لم يستطع هذا الفكر من القبض عليه باعتباره لغزاً أو شيئاً غامضاً لم تدرك أصوله مثل الدولة من وجهة نظر هذا الفكر الذي استبدل فكرة أو عقيدة الغيب بمفهوم الأسطورة التي تنكشف مقومات مفهومها في نظام الرمز الذي وظيفته في الدولة تحريك المشاعر نحو الانتماء إلى الدولة بشكل كوني وحالم وشاعري ،وهي ثلاثة عناصر تشكل أبعاد كل رمز أصلي عند جلبرت ديران .من هنا جاءت فكرة أن أصل الدولة لغز وأن مرورها إلى حياة الإنسان جاءت عبر أسطرة مفهوم السلطة الذي يحاول هذا الفكر من خلاله تفسير خضوع الإنسان والمجتمع إلى سلطة ما ثم إلى دولة ما بعد إن لم يقبض هذا الفكر على أصول وحقيقة الدولة تاريخياً ،فالدولة وفق (جورج بوردو) نجمت عن تطور عميق لإيمان متعلق بالسلطة فكانت هوية المجتمعات البدائية تتحقق عبر تستر السلطة، إنها اتساع سلطة عائلة أو وظيفة دينية ،وتبقى خلفية هذا الإيمان وأصله فيما هو لغز ويحدد جاك باغنر مكان السلطة الحقيقي بواسطة الجماعة في كليتها ،ولهذا فهو مكان غامض وإن لم يشر باغنر إلى هذا الغموض إلا أنه تأريخياً تمت مصادرة هذه السلطة لصالح طبقة أو من قبل أصحاب الامتيازات – باغنر- وصار مكان السلطة واضحا إن غموض الدولة واستنتاجاً عن باغنر نابع من تناقض ذاتي – دنيوي في تركيبة الدولة فهي من جهة تمثل عالم الحق الذي يسعى إلى السلام وتوكيد معيار عقلي في مجريات الدولة النظرية والعملية وهو افتراض أوروبي حديث في الدولة يريد باغنر تعميمه لأن الدولة في رأيه ويشاركه أوربيون كثر ظاهرة متموضعة في أوروبا تحديداً منذ القرن السادس عشر الميلادي ومن جهة أخرى فهي مشحونة بعالم السياسي وهو عالم من التقلبات والانفعالات والصراعات الملونة اللامعقولة وفق باغنر.أما الجانب الآخر الذي يشف عن المعنى الغامض في الدولة وتمر عبر المقوم الأسطوري في الوعي البشري لها وأعني بالمقوم ما تقوم به الدولة في الوعي وما يقوم به هذا الوعي من أسطرة ضرورية للدولة لغرض الإيمان بها إيمانا يقارب الإيمان المنبثق عن الأديان ،فالإله في التفسير الدوركهايمي تعبير عن روح الجماعة ووحدتها استبدلته الدولة الحديثة بذاتها في التجسيد للأمة أو تجسيد ذاتها الجماعية عبرها هكذا نجد أن الدولة الحديثة تزاحم الإيمان الديني في ضرورتها في أهمية وجودها اللامرئي وتنافس الإله الدوركهايمي في صياغة الرمز المعبر عن علاقة انطواء الذات في الأمة في الدولة وهو ملخص إشكالية الدولة الحديثة في الفكر الإسلامي السياسي الذي يؤمن بدولة تعبر عن سلطة الله تعالى بينما الدولة الحديثة تعبر عن ذات أدنى هي ذات الإنسان وهو سبب يقف خلف علمنة الدولة الحديثة وإقصاء الدين عن تشريعاتها وسياساتها ،لكن الدولة الحديثة بالنتيجة إلى إله دوركهايم ومنحت الإنسان دور الإله في تحديد معايير الحق والصواب ،وجاءت الصياغة الحديثة الدولية للدول العظمى أو للدول الكبرى تعبيراً عن هذا الحق الممنوح لها الذي صارت هذه الدول بواسطته تمثل وجهة نظر المجتمع الدولي وفق إملاءاتها هي وليس عن طريق توافق أو إجماع بشري عام فإذا كانت الدولة الدينية تنوء تحت سلطة الإله فإن الدولة الحديثة تنوء تحت سلطة مجموعة من البشر تقمصوا سلطة الإله ،هذه السلطة التي ظلت ترشح عن المعنى المؤله في الدولة فإنه قد فتح أمامه امتدادات في السلطة غير محدودة أخذت تتنامى وتترسخ عبر سعي الدولة إلى إثبات ذاتها الخاص والمنافس للإله دوركهايمي من خلال نظام رمزي يحشد ليس مجرد التأييد للدولة بل إلى تبني الدولة بشعور باطني &
الدولة اللّغز والحلّ والمعنى المتجدّد
نشر في: 22 يوليو, 2012: 08:31 م