علي حسين ما هو العبث ؟ هناك معان وتعريفات كثيرة له، لكن أبرزها وجدته في البيان الذي أصدرته وزارة الداخلية أمس تعليقاً على التفجيرات الدموية التي ضربت الكثير من مدن العراق، وراح ضحيتها العشرات من الأبرياء.. فالوزارة وعلى طريقة "الفتاح فال" اكتشفت أن النشاط الإرهابي يستدعي وقفة من صانعي الإستراتيجية الأمنية لتغيير الخطط والأساليب المعتمدة، طبعاً الوزارة لم تخبرنا من هم صانعو الخطط الأمنية، فهي وزارة معنية بإصدار البيانات وإحصاء عدد القتلى، وتهيئة اللواء عادل دحام كي يصبح نسخة كاربونية من الفريق قاسم عطا الذي نفتقد ابتسامته هذه الأيام وعبارته الشهيرة الوضع تحت السيطرة.
هل يمكن أن يتصور احد أن وزارة الداخلية المسؤولة عن الملف الأمني تصدر يبانا حماسيا تقول فيه: "الشكوى من ضعف الجانب الاستخباري وانتظار تحسن هذه الجهود لا يجديان نفعا، كما أن التحذيرات المستمرة من دون إجراءات وقائية لا تفيد الخطط الأمنية بشيء" طبعا المجنون نفسه لا يمكن أن يصدق هذا، لكنه حدث بالفعل، وحتى لا اتهم بالتبسيط والسخرية، فالقضية ليست في أشخاص يتولون شؤون هذه الوزارة، ولكنها مع منهج خاطئ يمكن أن نطلق عليه ونحن مطمئنو الضمير "تهريج امني" يصاحبه استرخاء وغفلة وتقصير وإهمال وشراء ذمم، ومن ثم لابد من عقاب سريع للقيادات الأمنية المسؤولة عمّا يجري كل يوم من كوارث، لأن من يراقب الخروقات الأمنية سيصاب بالصدمة والدهشة حين يعلم أنها وقعت في بلد به أكثر من مليون منتسب للقوات الأمنية، وبه رئيس وزراء يتولى مسؤولية القائد العام للقوات المسلحة ومسؤولون ظلوا يصدعون رؤوسنا بأننا نعيش أزهى عصور الاستقرار.الأعمال الإرهابية البشعة التي راح ضحيتها مئات الآلاف، تثبت أننا أمام حقيقة أكثر مرارة من العلقم، وهي أن المواطن اليوم أصبح بلا ثمن، ومن ثم علينا ألاّ نسأل عن حقوقه وضرورة توفير الأمن والخدمات له. هذه هي الحقيقة باختصار شديد، وإن حاولوا الضحك على عقولنا بأن ما جرى مجرد خروقات أمنية، وان قواتنا بالمرصاد وستطيح برؤوس الإرهاب، فمن المؤلم ان نجد وزارة الداخلية تصدر بيانات هي أشبه بنشرة توجيهية غاية في الاستفزاز، الغرض منها أن تنفي عن نفسها أية مسؤولية، فتصور للناس الأمر وكأنه مجرد حوادث تحصل بسبب "الخلايا النائمة والتنظيم الخيطي وعمليات تسطيح الفكر وإغراء الشباب واستغفاله" كما لو أن الحوادث تحصل بسبب عدم التزام الشباب بحملات الإرشاد والتوعية التي تقوم بها الوزارة.. ناهيك عن أن سعادة القائد العام للقوات للقوات المسلحة السيد نوري المالكي لم يكلف نفسه مثلا بالظهور على شاشات الفضائيات، ليبدي أسفه ومواساته لعوائل الضحايا. كنت أتوهم أن مقتل مواطن كفيل بتحريك قليل من مشاعر الغضب والإحساس بالمهانة لدى قادتنا السياسيين، ممن يتحدثون بقيم الدين وإعلاء شأن الإنسان وتكريمه، غير أن كل ما وجدته هو بيان بلا معنى حول قوة ومتانة قواتنا الأمنية، وان ما ينقصها فقط هو ان تجد شعبا يدرك ويفهم خططها الإستراتيجية. ولو عكسنا الوضع ورأينا ما حدث قبل أيام في أمريكا حيث قتل 12 شخصا عندما فتح مسلح النار على حشد داخل صالة للسينما في ولاية كولورادو، فما الذي حصل؟.. قطع الرئيس أوباما إجازته، وسافر إلى مكان الحادث، ليلتقي بعوائل الضحايا وليزور الجرحى، مؤكدا انه "حضر كزوج وأب أكثر من كونه رئيسا، وهذه الأحداث تؤثر فينا كثيرا لأننا ندرك جميعا ماذا يعني أن نفقد شخصا نحبه في ظروف مماثلة". وقال أيضا "أتيح لي أن التقي كلا من عائلات القتلى، قلت لهم إن الكلمات دائما تخوننا لكن مهمتي الرئيسية تكمن في تمثيل البلاد بأسرها والقول إننا نفكر فيهم".هكذا نجد مسؤولين يدركون أن المساس بمواطن واحد يعني المساس بالوطن كله، بينما هنا في بلادنا السعيدة بابتسامة عباس البياتي وخطب صالح يصبح المواطن جزءا من قطيع، يجري إحصاؤه بعدد الرؤوس التي قطعتها آلة الارهاب والطائفية.أعلم أنه من قبيل التكرار الممل أن نكرر أنه لو كان للفساد والإهمال خيار لاختار العراق موطنا أبديا، ذلك أنه لا يوجد بلد في العالم يدلل المفسدين والقتلة والانتهازيين والسراق ويحنو عليهما كل هذا الحنان، مثل بلدنا السعيد الغارق في أنهار خطب وبيانات وزارة (الإرشاد).. الداخلية سابقا.
العمود الثامن:نحييكم من وزارة "الإرشاد".. الداخلية سابقاً
نشر في: 26 يوليو, 2012: 03:45 م