أحمد عبد الحسين قيل قديماً: "السياسة فنّ الممكن". مؤكد أنّ من قالها سياسيّ كان يدافع عن تقلباته التي لا يحكمها موقف، يدافع عن موقع أقدامه الذي يتغير باستمرار، عن مصلحة شخصية له وجدها اليوم هنا، وسيجدها غداً في مكان آخر، ومضت الكلمة تزداد شيوعاً حتى غدت تعريفاً جامعاً مانعاً للسياسة في كلّ وقت ومكان، إلى أن جعلت السياسة الاسم الآخر للانتهازية.
فهم كهذا ينفع السياسيّ اللاعب على الحبال، فمهنته أن يكون بسبعة وجوه وبلا موقف، لكنّ سياسيين كثراً مضوا بهذا الفهم إلى أقصى تخومه بحيث باتت السياسة عندهم فنّ اللاممكن لفرط انتهازيتهم وعدم ثباتهم ولو على الحدّ الأدنى الذي يحفظ لهم مثقال ذرة من صدق.يحدث ذلك لدى السياسيين الذين يمتلكون جمهوراً غبياً "أو يظنونه أنه كذلك" أو جمهوراً بلا ذاكرة، أو جمهوراً يعبد صورة هذا السياسيّ بحيث يراه شمساً والشعب زهرة عباد الشمس التي لا تملك إلا أن تدور معه حيثما دار.يخاطر هذا السياسيّ باجتراح تعريف جديد للسياسة مؤداه أنها "فنّ النطّ"، ويغدو السياسيّ حينها نطاطاً، كنغراً يتقافز هنا وهناك من موقف إلى آخر مضادّ، وجمهوره معه يصفق له ويهلل مع كلّ نطّة ينطّها السياسيّ الفذّ.منذ بدء الأزمة السورية كانت حكومة العراق ضدّ الثورة، قال المالكي مرة: "لا نريد أن يسقط نظام الأسد" متسائلاً بغضب "ولماذا يسقط"، وسمّى الثوار عصابات وتابعه على ذلك مستشاروه والناطقون باسمه.حتى قبل يومين، يومين فقط لا أكثر، منع علي الدباغ "الناطق باسم الحكومة" اللاجئين السوريين من دخول العراق، وبعد ساعات فقط من هذا الإعلان سمح المالكي لهم بالدخول، قلنا إن ضغوطاً إعلامية وشعبية فرضتْ عليه ذلك وشكرنا له صنيعه الذي فهمناه باعتباره فضيلة الاعتراف بالخطأ وتصحيحه.كلّ هذا يدخل ضمن "فنّ الممكن" أي في حيّز الانتهازية المسماة سياسة، لكنْ ما هو غير ممكن ومتجاوز لحدود المعقول أن يعلن الدباغ نفسه أمس أن نظام الأسد يجب أن يسقط، ليس هذا فحسب، بل أن "ينتهي جذرياً" حسب وصفه.لا أعرف سرّ هذه القدرة على تغيير الخنادق بسرعة البرق، مع أني أتوقع أن يتغيّر هذا الموقف أيضاً اليوم أو غداً، وسنرى الدباغ أو سواه في مكانٍ آخر لا نتوقعه.لا أؤمن بتناسخ الأرواح لكني بدأت الآن أقتنع بالفكرة شيئاً فشيئاً، ويخيّل لي أن بعض الساسة العراقيين كانوا في حياتهم السابقة كناغر، وأرجعهم الله لنا على هيئة بشر، وجعلهم سياسيين أثرياء يخضمون مال الله خضم الأبل نبتة الربيع، لكنّ في أعماقهم لم تزل الحالة الكنغرية شغّالة وإنْ بشكل خفيّ، وها هم ينطّون من موقف لآخر، من ساحة لأخرى ومن خندق لخندق مضادّ.كلما ذهبت إلى حديقة الزوراء، في المكان الذي يضعون فيه الكناغر المسالمة التي يحبها ابني الصغير، أغرق في التأمل، وحين يسألني ابني عن سر استغراقي وشرودي أجيبه: انظرْ يا بنيّ إلى هذا الكنغر الوديع، يوماً ما بعد سنين ستراه ناطقاً رسمياً باسم حكومة مقبلة.
قرطاس:عن السياسيّ الكنغر
نشر في: 26 يوليو, 2012: 05:01 م