سرمد الطائي الأسئلة التي بعثتها للانتحاري قبل 3 أيام، جعلت العديد من الأصدقاء يرسلون لي جملة ملاحظات ومعلومات مؤلمة وصادمة حول واقعنا الأمني وكيفية إدارته. الحكايات لا يتسع مقال لسردها، فهي تبدأ من ضابط عثر على انتحاري فطردته الحكومة من العمل، الى شرطي يقطع اسلاك الصواعق بأسنانه ويظل عالقا في صراع الجيش
والشرطة، وقنابل يجري تهريبها عبر شبكة المجاري داخل مؤسسة أكاديمية، ومجانين يباع الواحد منهم بعشرين ألف دولار ليجري إعدامه بدل المجرم الحقيقي، وانتحاريين "بعمر الورود" يزج بهم في حرب استنزاف رهيبة.إحدى الحكايات تتعلق بضابط اكتشف بعملية استخباري ذكية، انتحاريا أراد تفجير نفسه قبل القمة العربية المنعقدة ببغداد، ببضع ساعات. الضابط كان يتحلى بخبرة ممتازة وتدرب طويلا على الفنون القتالية، واستطاع بحركة خاطفة ان يضع القيود في يدي الانتحاري ويفتح الحزام الناسف. الرجل خاطر بحياته ونجا بأعجوبة، لكنه تلقى كتابا رسميا يطرد بموجبه من الخدمة لانه كان قبل 11 عاما، موظفا في أجهزة امن صدام حسين، واكتسب خبرته هناك وصار يستثمرها في مكافحة الارهاب طيلة الاعوام التسعة الماضية!الحكاية تتحدث عن بطولات عديدة وتضحيات يقدمها منتسبو الجهاز الأمني، من قبيل عنصر في مكافحة المتفجرات عثر على صواريخ معدة للإطلاق ولم يسعفه الوقت لجلب معداته، فراح يخاطر بنفسه ويقطع أسلاكها بأسنانه. لكن مثل هذا الجهد حسب حكايتنا، يظل عالقا دون تطوير او تشجيع، بسبب صراع ازلي بين عمليات بغداد (الجيش) ووزارة الداخلية، حول تفاصيل كثيرة تتعلق بالصلاحيات الامنية وعدم رغبة الجيش بتسليم المدن الى الشرطة، وما الى ذلك، وسوء التفاهم هذا يبدد كثيرا من فرص تطوير الخبرات وتبادل المعلومات الاستخبارية ويضيع علينا وقتا وجهدا ودما بلا حساب.والشعور بأن مؤسسات الدولة الأخرى لا تتعاون مع عناصر الامن، أمر يشيع الاحباط. فالضباط مستاؤون من ادارة السجون وبعض القضاة، ويقولون ان اجهزة الامن تخاطر بأرواح منتسبيها وتلقي القبض على القتلة، لكن هؤلاء يخرجون "براءة" عبر محامين متخصصين وبارعين وبصفقات مالية كبيرة، او من خلال تهريبهم عبر "صفقات كبيرة" مع متعهدين داخل السجون. بل ان هناك من يقوم بإدخال أشخاص مجانين ويستبدلهم بمتهمين كبار، ثم يخرج المتهم ويبقى المجنون يمضي عقوبة السجن، او تنفذ به عملية الاعدام، وهؤلاء يؤكدون ان سعر المجنون في العراق اصبح 20 ألف دولار لاستخدامه في مختلف تفاصيل العمل العنفي.ضابط آخر يحدثك عن الأساليب المعقدة التي لا تخطر على بال، في تنفيذ العمليات. يقول ان احد المسلحين تسلل عبر شبكة مجارٍ واحدة من الكليات ونجح عبر هذا الطريق الغريب، ان ينقل عبوات ناسفة مخططا لعملية كبيرة، لولا اعتراف شريك له في آخر لحظة، ونجاح الشرطة في القاء القبض عليه.الفقرة الأشد إيلاما في جملة التعليقات التي وصلتني، هي ان معظم الانتحاريين الذين جرى رصدهم خلال العامين الماضيين، كانوا من مواليد التسعينيات وكما يبدو من صورهم التي تجمعها التحريات فيما بعد، فإنهم يحرصون على ارتداء ملابس "آخر موديل" ويحبون احدث تسريحات الشعر، ويستقلون سيارات حديثة ولديهم حبيبات..الخ. اي انهم وردة تتفتح توا وتقبل على الحياة، لكنهم وعبر عملية لم تجر دراستها بعد، يقعون ضحية جهة تستغل عاطفتهم السياسية او الاجتماعية الجياشة وشعورهم بالظلم، وحماسهم الشبابي المتقد.إنني اردد دائما ان الفشل هو واحد. وبالتأكيد فإن وزارة الكهرباء على سبيل المثال لديها مال كاف، وفيها كوادر مخلصة وخبيرة، لكن السياسة العامة هي التي تمنعهم من تطوير واقع الحال. وقل هذا عن المؤسسات الخدمية من البلديات الى الصحة وصولا للتربية. ومؤسسة الامن واقعة تحت القاعدة ذاتها، فهي تضحي كثيرا ولديها خبرات جيدة ومخصصات مالية طائلة، لكنها تدار بنحو سيئ لا يبالي كثيرا بأن تبقى الحرب على الارهاب 50 سنة اخرى. وهناك تجار للفشل يحافظون عليه ويطورونه، لانهم لن يعيشوا لو حانت لحظة النجاح، كما هو حال تجار الاسلحة وقت الحرب.
عالم آخر: أمن ومجانين ومواليد تسعينات
نشر في: 26 يوليو, 2012: 05:20 م