اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > اللون الأبيض يفترس مكبث

اللون الأبيض يفترس مكبث

نشر في: 29 يوليو, 2012: 06:02 م

د. صلاح نيازيتُرى ما أسباب شطط بعض المترجمين عن الأصل ووقوعهم في أخطاء معيبة، حتى لو كانوا متضلعين من اللغتين؟  هم في أحسن الأحوال ينقلون المعنى ولكنّهم حتى لو نقلوه صحيحاً إلاّ أنّ شيئاً ما يبقى مفقوداً. قد نصطلح على تسمية هذا الشيء المفقود بالروح، فنقول إنّ هذه الترجمة أو تلك خالية من الروح.
ونشير بذلك إلى عدم قابلية النص المترجَم على التفاعل. ولكنّ ألفاظاً مثل: "شيء مفقود" و "روح" و"تفاعل" وتنويعاتها، ألفاظ لا علمية وبالتالي لا يمكن الاطمئنان إلى حدودها أو مدلولاتها.قد نهتدي إلى جواب أكثر إقناعاً لو أننا وُفِّقنا إلى جواب أو أجوبة عن الأسئلة الآتية: لماذا تعددت نسخ كل مسرحية من مسرحيات شكسبير؟  بكلمات أخرى، ما الفرق بين هذا المحقق وذاك؟ هل مردّ ذلك، إلى الاختلافات في المخطوطات الأصلية، أم في ثقافة المحققين؟ أمْ يا تُرى في فهم صناعة التأليف عموماً، والإحاطة  بمعرفة تقنيات شكسبير على وجه الخصوص؟من المحتمل أنّ معرفة تقنيات الكاتب، شاعراً كان أمْ ناثراً، هي سرّ الاختلاف بين المحققين وبالتالي المترجمين، وسر البعد أو القرب من النصّ الأصلي.خشية الإطالة، سنتناول هنا تقنية واحدة من تقنيتين هما: 1- الحواس. و2- المنظورية Perspective  ونرى كيف يؤدي فهمهما إلى اقتراب الترجمة من النصّ الأصلي. على هذا ، فشطط  بعض المترجمين يعود إلى إهمالهم أو عدم التفاتهم إلى هاتين التقنيتين. هذا الإهمال ينطبق على المحقق الإنكليزي كما ينطبق على المترجم العربي.  لم يلتفت جبرا إبراهيم جبرا، - على ما يبدو - إلى قدرة شيكسبير العجيبة على استعمال الحواس، ولا إلى أهمية المنظورية في رسم الصور الشعرية.على سبيل التطبيق، لنأخذ الحوار التالي بين مكبث وخادمه (الفصل الخامس –المشهد الثالث). بلغ تمزّق مكبث في هذه المرحلة، حدّاً، بات معه يكره النور، ويتطيّر من اللون الأبيض.أدناه ترجمة المرحوم جبرا:مكبث : سخطك الشيطان عبداً أسود، يا وغداً حليبي الوجه من أين لك سحنة الأوزة هذه؟خادم: هناك عشرة آلاف –مكبث: أوزّة يا نذل؟خادم: جندي يا سيديمكبث: إذهبْ وخزْ وجهك، وموّهْ خوفك بالأحمر يا ولداً زنبقي الكبد. أيّ جنود، يا مهرّج؟موتاً لروحك خدّاك بلون الخام يلقنان الفزع. أي جنود، يا وجهاً من حليب؟قد لا يخلو سطر من الترجمة أعلاه، من تحذلق مؤذٍ. لا يمكن ردّ شططٍ كهذا، إلى عدم تمكّن المترجم من اللغة الإنكليزية، ولكن إلى عدم التفاته إلى دور الحواس أوّلاً، وإلى التقنية التي استعملها شكسبير في تصوير الخوف عن طريق استعمال اللون الأبيض.أوّلاً لنتذكرْ أنّ شكسبير، صوّر في الحوار أعلاه حالة رهيبة من الهلع تتراوح بين الحياة والموت. ومما يجعل هذا التراوح يأخذ طابع الطوارئ هو أنّه يحدث في زمن محدود وقصير وحاسم، وأكثر من ذلك لا يقبل التأجيل.جَلَبَة الأعداء  زاحفة على مكبث. زاحفة خلال سمعه وبصره. سمعه وبصره هما الثغرتان الواهيتان في حصن جسده. سمعه وبصره يقاتلانه. حاستان تستميتان في إنكار وجودهما.  كأنّهما لفرط هلعهما تصطفّان إلى جانب أعدائه . بكلمات أخرى، بدأت المعركة في داخله قبل أن تبدأ معركته الحقيقية مع أعدائه في الخارج. أجلُهُ يجيء مع ما يحمل إليه خدمه من أنباء، ومصيره يتجسد في ما  يراه من زحف. أيّ بلاء أشدّ من تراوُحٍ بين الحياة والموت؟ عزّ الظلام. ما من ظلام ، إذنْ ما من مهرب. يصيح مكبث: "لا مهربَ من هذا المكان، ولا مكوثَ هنا". بلغ الهلع حدّ الهذيان، واندلق اللسان. الحوار لهاث بالكامل وأخذ صيغة فعل الأمر. فعل الأمر يكتسح كلّ صيغ الفعل الأخرى. ما من ماضٍ ولا حاضر ولا مستقبل. أمرٌ فقط.  ولأوّل مرّة ربّما في تأريخ الأدب، تتحوّل الألوان من صفات لمواد،  إلى مجرّدات قائمة بذاتها. ألوان بلا موصوفاتها. وها هو اللون الأبيض يفترس مكبث. كان وجه الخادم مبيضّاً من الخوف، فكيف ترجمها جبرا إبراهيم جبرا: "يا وغداً حليبي الوجه" ؟ ولكن هل : حليبي الوجه صفة مذمومة؟ ولو أُخِذتْ الجملة على حدة فهل يُفهم منها الخوف؟ وهل Cream: حليب؟ ولماذا أضاف  كلمة:"عبداً"، في البيت: "سخطك الشيطان عبداً أسود". أوّلاً كان شكسبير معنياً بالمجردات في هذا المقطع، وثانياً لم يكنْ عنصرياً قط. راح مكبث يفتش عن اللون الأسود، عن لون الظلام، حتى وإن كان بلون اللعنة.كانت"سيماء الخادم مقشعرّة كجلد الأوزّة"، فكيف تُرجمتْ إلى "سحنة الأوزة". ما من سحنة هنا، وإنما المقصود: قشعريرة الجلد التي يعبّر عنها بالإنكليزية: Goose flesh ، عند الخوف أو البرد.يطلب مكبث من خادمه، أن يخز وجهه ليجعل: "بياضه أحمر بالدم". إلاّ أن جبرا عبّر عن ذلك بما يأتي: "وموِّهْ خوفك بالأحمر". ما من تمويه في النصّ، ووضْع اللون الأبيض بدلاً من الخوف أفضل وأكثر منطقية وتأثيراً.كذلك يصف مكبث خادمه بأنّه: Lily-liver’d ، أيْ مخلوع الفؤاد، وهو تعبير لا يخلو من اللون الأبيض، إلاّ أ

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

تربوي يشيد بامتحان "البكالوريا" ويؤكد: الخطا بطرق وضع الأسئلة

إطلاق سراح "داعشيين" من قبل قسد يوتر الأجواء الأمنية على الحدود العراقية

(المدى) تنشر مخرجات جلسة مجلس الوزراء

الحسم: أغلب الكتل السنية طالبت بتعديل فقرات قانون العفو العام

أسعار صرف الدولار في العراق تلامس الـ150 ألفاً

ملحق منارات

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

في استفتاء موسيقي تنافسي سنوي حصلت إسطوانة “أصابع بابلية” للمؤلف الموسيقي وعازف العود العراقي أحمد مختار على مرتبة ضمن العشر الأوائل في بريطانيا وأميركا، حيث قام راديو “أف أم للموسيقى الكلاسيكية” الذي يبث من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram