TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > عالم آخر:رطانة مع السلطان

عالم آخر:رطانة مع السلطان

نشر في: 29 يوليو, 2012: 09:06 م

 سرمد الطائي  منعني دخول الصيف من ممارسة هوايتي اليومية وهي المشي على الاقدام بين الباب الشرقي ونهاية شارع ابي نؤاس. لكن قرارات سلطاننا بالتشدد في السيطرات اتاحت لي مرغما ان اعود للمشي تحت شمس الله الحارقة صباح الاحد. تسأل عناصر الجيش: شنو الموضوع؟ يجيبك الضابط متهربا من السؤال: ان الجو حار جدا!
صبيان يعملون حمالين في الازقة البائسة، ويشترون الفلافل والماء البارد من مطعم "غير شرعي"، فيأتي شرطي ويقوم بتعنيفهم لأنهم متورطون بإفطار علني. هم يؤكدون له عجزهم عن الصوم اثناء تحميل البضائع في تموز، والشرطي يتشبث بقانون البلاد. بؤس الفتيان يتجادل بشكل دراماتيكي مع بؤس عنصر الامن المكسو بالدبق ورائحة التعرق والملل من مراقبة شارع غامض ومليء بالمفخخات المحتملة.الجدل هذا اعاد الى ذاكرتي رطانة من نوع آخر حدثت بيني وبين شرطي ايراني في رمضان 1991. كنت صبيا لا افهم حظر الافطار العلني، وبالكاد أحاول تجربة التدخين في زقاق قديم داخل المحمرة، فلمحني شرطي وراح يعنفني بالفارسية وحاجز اللغة يمنعني من فهم ما يقول. وتوهمت للحظة انه يحاول ان ينصحني بترك التدخين لانني مازلت صغيرا على ذلك، فرحت احاول ان اشرح له بخليط ملكون من مفردات انجليزية وعربية وفارسية، انني افهم ضرر التنباك وسأحاول ألا افرط فيه، بينما الشرطي ينهال علي بكلمات قاسية ويلوح بالاصفاد المتلامعة مهددا باعتقالي، وأنا اسأل نفسي: هل يعتقلون الفتيان هنا بتهمة التدخين؟ حتى جاء رجل من عرب ايران وانقذ الموقف وشرح لي منع الافطار العلني في رمضان!وبينما تصطف السيارات دون حركة تقريبا عند جدارية فائق حسن، وينهمك الشرطة في تفتيش بلا جدوى، بحثا عن اشباح انتحاريين لم يمسك بهم احد في سيطرة او تشيك بوينت، فإن قافلة البؤساء والمساكين والمتقاعدين والمسافرين ومن انقطع بهم السبيل تسيرعلى الاقدام. المساكين يتحركون بصعوبة وسلطاننا يحرك قواته نحو فيشخابور. الناس يموتون في بغداد وجيشنا يفتعل مشاكل نحن في غنى عنها، مع بيشمركة كردستان.المساكين يتحركون بصعوبة بين السيطرات المنهكة، وسلطاننا يقوم باستفزاز المحيط العربي في الملف السوري، ويستفز المحيط الكردي، ويستفز المحيط السني، دفعة واحدة، بعد ان استفز المحيط الشيعي نفسه سلفا بانهيار الخدمات والعجز عن احداث فرق في حياة الاهالي.المساكين يزحفون على شوارع جرداء وسط بغداد، تملؤها الانقاض ويسودها الاهمال ويمنحها المناخ لونا ملحيا اغبر بلا رحمة، والسلطان لا يبذل جهدا دبلوماسيا لحلحلة التوتر مع العرب، ولا يخوض حوارا يهدئ التوتر مع الكرد، او يفكك أزمته مع شركائه الشيعة انفسهم.وبدلا عن ذلك فإن السلطان يقوم بتهييج السعودية وقطر، واعوانه يشتمون الدوحة والرياض صباح مساء، دون اخذ الحسابات المعقدة بعين الاعتبار. اي دبلوماسية هذه واي سياسة خارجية يا ترى؟السلطان يهيج الخصوم ثم يعلن النفير العام ويقطع الطرقات ويشدد السيطرات خوفا من انتحاريين قد يتخذون من سياسات بغداد في الملف السوري، ذريعة منحطة ووضيعة لتقتيلنا.المخاوف الامنية يجري احياؤها على يد متطرفي الشيعة والسنة، مرة اخرى. وعلى مشهد تدمير حلب بالمدفعية، يمكن لمتطرفي الجبهتين ان يجعلونا ننسى وضعنا الداخلي المليء بالكوارث، وننشغل بالتعامل مع عدو يجري تضخيمه على تخوم دمشق.الكثير من ساستنا يفرحون حين تأتي ازمة من هذا العيار، لانهم فشلوا وسط الاستقرار النسبي، في تحسين حياة الناس، ويمكن لحرب او نصف حرب قرب الحدود او حواليها، ان تلقي اليهم بطوق نجاة، وتقدم لهم سهما طازجا في اي انتخابات قريبة.الناس يقطعون مسافات طويلة مشيا على الاقدام، نهاية تموز وتحت شمس رمضان الحارقة، وسياستنا ترتبك وتتلعثم، تحشد الجيش في العاصمة، وتنقل قطعات منه نحو فيشخابور وتفتعل ازمة مع البيشمركة، وتتيه احيانا بين التزاماتنا مع الدول الكبرى، وتعهدات غامضة مع طهران، وحسابات داخلية يعجز عن كبح جماحها كل متظاهري البصرة الحالمين بالكهرباء. الزاحفون على اقدامهم قرب الباب الشرقي يخوضون "رطانة" مع السلطان، فلا هو يفهمهم ولا هم يفهمونه.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram