TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > منطقة محررة: البذرة المسمومة

منطقة محررة: البذرة المسمومة

نشر في: 31 يوليو, 2012: 06:33 م

  نجم والي2 – 2أرى هتلر في صور الحشد الذي ازدحم في ساحة وسط فيينا وهو يهتف لإعلان الحرب، هتلر الذي كان حتى تلك اللحظة من يوم 1 أغسطس/آب 1914 شخصاً نكرة، هتلر الذي لم يكن شيئاً، بل لم يكن فيه ما يدعو للاهتمام، ولا يمكنني حمل نفسي على تخيل فرضيات عبثية عن ذلك الذي سيحدث، أو عن ذلك الذي لن يحدث أبداً:
 ما هو عدد الرجال الذين كانوا يصرخون ويهتفون ملتصقين به في الصورة، سيموتون بقذارة في الأربع سنوات القادمة، وما هو عدد الذين سينجون من الحرب العالمية الأولى لكي يملأون من جديد الساحات بعد عشرين عاماً ويهتفون باسمه عالياً، وهو يدخل فيينا لكي يلحقها إلى ألمانيا، لكي يلحق "الفرع بالأصل"، هو هتلر الذي كان من الممكن أن يموت على جبهات الحرب العالمية الأولى مثل الآخرين، مقتولاً أو مفقوداً دون ملامح داخل حشد "الجماهير"، في الأعمال المبتذلة حيث واظب على تغذية حنقه الذي لا يكلّ، رساماً للوحات سيئة يبيعها على محال تجارية من الدرجة العاشرة متخصصة  ببيع الصحون والبوسترات الخاصة بفيينا، حيث كان يسكن غرفاً مؤثثة بشكل بسيط تصلح لإقامة رجال عزاب، يقرأ ما يعثر عليه في قمامة ما تبيعه أكشاك بيع الصحف والمجلات وخاصة تلك القمامة التي تتحدث عن المواضيع الجنسية الغريبة الأطوار وعن "دسائس" اليهود وعن طقوس الكفاح في الحياة وتفوق العرق الآري الألماني.كل ما هو رخيص ومبتذل، من الدرجة المنحطة لصنف واطئ جداً، كل ما يتغذى ويتراكم من حنق وغضب وكراهية وعدوان، بسبب الحميّة "الوطنية" لطراز من البشر، شرير، أو بسبب حسد لأولئك الذين لديهم شيء ما لا يملكه هو، لا يهم ما يكون، شيء توسوس له نفسه بمصادرته من أحد استحقه، لا يهم ما هو، لأن الرجل ذلك بخصلة الشعر المتدلية والشارب المميز، صاحب الوجه الممصوص، يريد امتلاك كل شيء. صحيح أنه ليس الشخص الوحيد في فرز السم الذي سيسمم الملايين من الكائنات الإنسانية، لكنه الوحيد الذي سيحوز امتياز اعتراف الآخرين بتأثيره عليهم، ومحاولة التيمم به، وللتعامل مع شخصيته بشغف، مثل حلم، مثل برنامج سياسي للسيطرة القصوى، "رجل المرحلة القوي"، "القائد المقتدر"، الذي تفديه الجماهير بالروح والدم... وغيرها من الألقاب التي والصيحات التي سمعناها بالأمس وما نزال نسمعها اليوم خاصة عندنا في العراق، هل نسيتم الصيحة السائدة هذه: "بالروح...بالدم..نفديك يا هو الجان!". أنه أمر يدعو للعجب، فكما يحدث في أفلام الرعب، لن يموت الوحش مهما واراه الناس التراب. أتذكر، أنني في المرة الأولى التي رأيت فيها، في برلين، المكان الذي كان ذات يوم بناية مكتبه، مكتب الفوهرو، شعرت بصورة محسوسة بالقرف الذي يثيره فيّ قربه، سحره المؤذي، والذي يزداد عند رؤيتي لكل تجمع للنازيين الجدد، الذين لا يمرّ يوم  في ألمانيا، ولا يهجمون أو يحرقون فيه بيتاً للأجانب (آخر ضحاياهم عشرة رجال، وبتفاوت زمني على مدى عشر سنوات، تسعة أتراك ويوناني واحد، أُطلق عليهم "ضحايا الكباب"، لأن أغلبهم كانوا باعة كباب، قتلوهم بدم بار وبتواطؤ من رجال الأمن الألمان!). لكني، يجب أن أعترف هنا، وبصراحة، أنني وإن كنت أعيش في ألمانيا، إلا أنني هذه الأيام، وبعد ما يزيد على سبعة عقود ونصف من موت رجل الصورة ذاك، الصغير الضائع في الصورة المأخوذة في فيينا، أزداد كل مرة أكثر رعباً واشمئزازاً كلما أرى في التلفزيون صوراً لحشود تهتف باللغة العربية لهذا "القائد" الذي كان يوماً نكرة وأصبح بضربة قادر رجل الله المختار، نعم، كم أشعر بالاشمئزاز عندما أرى عندنا حشوداً تشبه حشود فيينا تلك، في القاهرة، وفي صنعاء في الخرطوم وفي الرياض، في دمشق وفي بغداد، حشوداً تهتف الهتافات ذاتها، يوحدها الشعار ذاته، "بالروح بالدم نفديك يا هو الجان!!!"، حشود بشر تزأر بحماسة يغذيها الحنق والجهل والقمامة، تهتف بحياة قائدها المنشود، حينها فقط لا أرى غير وجهين عرفتهما، الأول في الصورة، صورة حشد فيينا تلك، والثاني كابوس خيّم على حياتي وعلى حياة الملايين، على مدى أكثر من ثلاث عقود، دخل فيها حتى إلى غرف النوم، أقصد "القائد الضرورة" صدام حسين. نعم، كلما رأيت صور الحشود هذه، كلما استحوذ علي الخوف من عودته دائماً، ورؤية وجهه الكريه يبرز في صورة الحشود تلك، ولا يهم أن يظهر في المرة هذه بمنظر جديد. البذرة المسمومة التي زرعها هتلر تظهر في ألمانيا من حين إلى آخر على شكل نازيين شباب، أما تلك التي زرعها صدام فما زالت تعثر على أيدٍ تغذيها عندنا كل يوم!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram