شاكر لعيبيحلمي سالم (1951- 2012) أقرب، في ظني، للشعر العراقي من أي شاعر مصري آخر: لغةً وضميراً وتطلعاتٍ. إن "المأزق الوجودي" للشعر العراقي" في خلطه الكيميائيّ المستمر بين الشعر والسياسة موجود في ثنايا شعره، وبإصرار، طيلة فاعليته الثقافية في المشهد المصريّ. وهذا كان حصيلة معقدة لشروط محدّدة.
تعود علاقتي بالشاعر الرحل حلمي سالم إلى عام 1980 في بيروت. كانت المدينة مَرْجلاً يغلي بالأفكار والحماسة. كانت مختبراً للثقافة والتجريب، والسأم من السياسة الرسمية المصابة بالعطب الشامل. لعل لقائي الأول به كان في بيت السينمائي محمد توفيق الذي كان جاراً لي في شارع متفرع من الحمرا. كنا شباباً، ومن الوهلة الأولى نعرف بالضبط طبيعة الأمر الذي يجمعنا في هذا المكان الحيويّ. لقد بقي جوهر هذا الأمر علّة وجود حلمي سالم وسبب نشاطه الثقافي والشعري والجمالي. أقول اليوم أنْ لا شيء يضاهي حلم بيروت في تلك الفترة، ولا يوازن كينونة سعيدة مثل كينونة الراحل سالم المأخوذ دوماً بالجمال والحقيقة. لقد ظل وفيّاً لنفسه، ومخلصاً لتلك "اللحظة الاستعارية" العميقة كما أراها اليوم بعد أكثر من ثلاثين عاماً، إذ ارتبط بشغفٍ نادر، وفي آن واحد، بالكتابة الشعرية والسجالات السياسية التي وقف فيها دوماً جوار العدالة والعقل، ولعل آخرها "معركته" بشأن قصيدته "شرفة ليلى مراد" التي أثارت ضجة كبيرة في عام 2007. لقد أعاد نشرها في مجلة (نقد) بعد أن تضمّنها ديوانه "الثناء على الضعف" رغم أن التيار الإسلاميّ كان قد اعتبرها مسيئة للذات الإلهية وطالب بسحب جائزة وزارة الثقافة عن مجمل أعماله منه. لم يَهُنْ حلمي سالم ولم يضعف رغم قوة التيار.التقيت به بعدئذ في مقهى "غرومبي" محض مصادفة في زيارة إلى القاهرة ربما صيف 2002 أو 2004. وهنا يمكن أن يرى المرء قوة الكرم والأريحية في شخصية الراحل. ثم سطوة العمر الذي يمر دون أن تدري. اختفى الشاب البيروتي الوثاب، وحضر الرجل الناضج الأشيب قليلاً. عام 2006 – 2007 التقيت به من جديد في نقابة الصحفيين المصريين، وكان برفقة الشاعرة الصديقة فاطمة ناعوت. ليدعواني كلاهما إلى جلسة دردشة في المقهى الواقع أعلى النقابة حيث تشاهد منظراً بانورامياً للقاهرة: ما زال الرجل هو نفسه منخرطاً في الثقافيّ والسياسيّ كليهما وبالروح الأريحيّ ذاته. لقد رحل حلمي سالم في الفترة نفسها التي رحل بها إبراهيم أصلان وخيري شلبي، فرَحَاً مما يحدث أو غيظاً..... أو كلا الأمرين.رحل حلمي سالم بعد مرض عضال في الستين من عمره. ولا أعرف، رغم التكريم الأخير له منذ بعض الوقت، فيما إذا حاز هذا الشاعر المصري الجميل المكانة الحقيقية التي يستحقها بين مجايليه، وسط مشهدٍ شعريّ، مصريّ وعربيّ، اختلطت فيها المعايير الجمالية بالقيم الهشة للميديا. وخاصة لأنه ظل قريباً إلى مزاج حزب التجمع اليساريّ وإلى تلك المفاهيم الشعرية العالمية التي لا تضحّي "بالرسائل الشعرية" لصالح الجماليّ المنقّى وحده. ربط حلمي سالم، بشكل لبق، بين (الحداثة) و(التسامح) في عمله "الحداثة أخت التسامح"متوصلاً إلى خيط رفيع بين حداثةٍ منشودةٍ وبين الحقوق الأساسية للإنسان كما عرفتها الشرائع المعاصرة، وهنا يستعيد شغفه الدائب في وصل الثقافي العريض بالهموم الاجتماعية الأكثر شيوعاً.ومن بين قلة من مجايليه خرج الراحل من القارة الثقافية المصرية إلى الجغرافيا الثقافية العربية، فاعلاً ومُنفعِلاً، مُساهِماً ومراقباً ومشاطِراً. وهو أمر لم يتهيأ دائماً لشاعر مصريّ معاصر، ولعله من نتائج فترته اللبنانية ووعيه الرحب وقربه من الرحم الكونيّ الأشمل. من المنوفية حيث وُلد إلى فضاء العالم، مرق حلمي مثل كوكبٍ، مثل مذنـّبٍ. يا حلمي سالم، لترقد روحك بسلام.
تلويحة المدى: في وداع الشاعر المصري حلمي سالم
نشر في: 3 أغسطس, 2012: 09:02 م