د. يحيى الكبيسي يعرف المنطق بأنه آلة قانونية تعصم مراعاتُها الذهنَ عن الخطأِ في الفكر. وتعتمد هذه الآلة القانونية على ثلاث قواعد أساسية؛ الأولى قاعدة الذاتية، أي ضرورة التقيد بذاتية مدلول اللفظ الذي نستخدمه فلا نخلط بين الشيء وما عداه، ولا نضيف للشيء ما ليس فيه، والثانية قاعدة عدم التناقض ويعني أن الشيء الواحد لا تجتمع فيه صفتان متناقضتان في آن. والقاعدة الثالثة تسمى قاعدة الثالث المرفوع، وتعني أنه لا قيمةَ وسطى بين الصدق والكذب، فكلُّ قضية إما صادقةٌ وإما كاذبة.
وينسب الاستدلال، وهو الانتقال من المعلوم إلى المجهول، ومن المقدمات إلى النتائج، إلى أرسطو، ويعرف بأنه: استنباط نتيجة من مقدمتين إحداهما قاعدة عامة مسلم بها (موجبة أو سالبة)، والأخرى حالة خاصة موجبة تندرج أو تدخل تحت هذه القاعدة العامة. أجد هذه المقدمة التعريفية ضرورية للدخول في مناقشة قراري المحكمة الاتحادية رقم 104/2011 و 105/2011 الصادرين في 30/1/2012، والمتعلقين بعدم دستورية قانوني ديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة، تحديدا المادة التي أعطت لمجلس النواب صلاحية ترشيح رئيسي الديوان والهيئة واختيارهما. وقد استندت المحكمة الاتحادية في هذا على الاستدلال الآتي:أولا. لم يكن من اختصاصات مجلس النواب المحددة في المادة 61 من الدستور ترشيح المؤهل لمنصب رئيس ديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة.ثانيا. إن المادة 61/ب من الدستور أعطت لمجلس النواب حق الموافقة على تعيين السفراء والدرجات الخاصة باقتراح من مجلس الوزراء.ثالثا. إن المادة 80/خامسا من الدستور أعطت لمجلس الوزراء اختصاص التوصية إلى مجلس النواب بتعيين السفراء والدرجات الخاصة.رابعا. إن منصبي رئيس ديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة هما بدرجة وزير، وإن المادة 76/ثانيا من الدستور أوضحت الجهة التي تقوم بترشيح الوزير بالنص على أن "يتولى رئيس مجلس الوزراء المكلف تسمية أعضاء وزارته خلال مدة أقصاها ثلاثون يوما من تاريخ التكليف". كما نصت المادة 76/رابعا على أن "يعرض رئيس مجلس الوزراء المكلف أسماء أعضاء وزارته والمنهاج الوزاري على مجلس النواب ويعد حائزا على ثقتها عند الموافقة على الوزراء منفردين والمنهاج الوزاري بالأغلبية المطلقة".خامسا. إن المادة 78 من الدستور نصت على أن "رئيس مجلس الوزراء هو المسؤول التنفيذي المباشر عن السياسة العامة للدولة ...".سادسا. بناء على ما تقدم قررت المحكمة عدم دستورية القانونين لأنهما جاءا "خلافا لما هو منصوص عليه في المواد الدستورية المشار إليها أعلاه" كما أنهما خرقا مبدأ الفصل بين السلطات التي نصت عليها المادة 47 من الدستور لأن الأخذ بما جاء في القانونين في ما يتعلق بترشيح رئيس الديوان والهيئة "معناه خرق هذا المبدأ وتجاوز على اختصاصات السلطة التنفيذية وخروج على الصلاحيات المنوطة بمجلس النواب". وأن الترشيح لمنصبي رئيس ديوان الرقابة المالية ورئيس هيئة النزاهة إنما يكون بتوصية من مجلس الوزراء إلى مجلس النواب بالموافقة على تعيينهما. ولنحاول بشيء من الروية تفكيك هذا الاستدلال:ـ رأت المحكمة الاتحادية أن تعيين ترشيح رئيسي ديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة لم يردا في اختصاصات مجلس النواب الواردة في المادة 61 من الدستور، ولكن المحكمة لم تلتفت إلى أن هذا الأمر لم يرد أيضا في اختصاصات مجلس الوزراء الواردة في المادة 80 من الدستور!ـ استندت المحكمة الاتحادية إلى المادة 61/ب من الدستور التي أعطت لمجلس النواب حق الموافقة على تعيين السفراء والدرجات الخاصة، باقتراح من مجلس الوزراء. أي أن المحكمة اعتمدت المصادرة على المطلوب (وهي مغالطة تجعل المطلوب جزءاً من مقدمات البرهان المراد به إنتاجه) في افتراضها أن منصبي رئيسي الديوان والهيئة يقعان ضمن حد الدرجات الخاصة، وهو أمر غير صحيح.ـ والمحكمة اعتمدت المغالطة نفسها عندما أشارت إلى أن الترشيح للدرجات الخاصة ومن ثم للمنصبين المذكورين تبعا لاستدلال المحكمة، إنما يرد حصرا من مجلس الوزراء. ـ اعتمدت المحكمة الاتحادية مغالطة المصادرة على المطلوب مرة ثالثة عندما استندت إلى المادتين 76 ثانيا ورابعا المتعلقتين بترشيح الوزراء، من خلال المماهاة بين الوزير في الكابينة الحكومية ومن هو بدرجة وزير، كما أنها جعلت من هو بدرجة وزير خاضعا للأحكام نفسها التي تخص تعيين الوزراء!ـ أوردت المحكمة الاتحادية نص المادة 78 من الدستور التي تصف طبيعة وظيفة رئيس مجلس الوزراء من دون أي مسوغ، فالمواد السابقة كانت تتعلق بصلاحيات مجلس النواب وصلاحيات مجلس الوزراء، ثم انحرفت إلى مسألة تعيين الكابينة الوزارية، ومن ثم لا وظيفة حقيقية لهذا الاستشهاد في هذا الموضع.ـ بناء على هذه المجموعة من المغالطات ارتأت المحكمة أن ثمة انتهاكا لمبدأ الفصل بين السلطات في نص القانون، ومن ثم قضت بلا دستوريته.نحن أمام نموذج من الاستدلال لا يمكن أن يستقيم مع قواعد المنطق. فقرار المحكمة الاتحادية جمع مجموعة كبيرة من النصوص الدستورية التي لا رابط بينها للوصول إلى نتيجة هي بالنهاية لا ترتبط بالمقدمات! فهو أراد أن يثبت أن الترشيح لهذين المنصبين لم يردا في اختصاصات مجلس النواب ولكنه لم يقدم الدليل على أنه ورد ضمن اختصاصات مجلس الوزراء، ثم انتقل إلى افتراض أن من هو بدرجة وزير يقع ضمن حد الدرجات الخاصة من دون دليل
المحكمة الاتحادية وفرادة الاستدلال المنطقي
نشر في: 4 أغسطس, 2012: 07:15 م