احمد المهناالمرحاض الغربي راحة أعصاب، والمرحاض العربي دمار أعصاب. ولعل هذا الاختلاف هو ذاته الذي بين الحاكم الغربي والعربي. وقد استوحيت هذا الفرق من طرفة تقول أن صحفيا سأل أحد الثوار الليبيين الشباب:ما الفرق بين رؤساء العرب ورؤساء الافرنج؟ أجاب إنه نفس الفرق بين مقعد الحمام العربي ومقعد الحمام الأفرنجي.
فالمقعد الأفرنجي يمكن نزعه بفك مسمارين فقط، أما المقعد العربي فلا يمكن فكه إلا بتكسير الحمام كله! تلقيت هذه النكتة وأنا خارج للتو من قراءة كتاب (أشخاص حول القذافي) لعبد الرحمن شلقم، أشهر الدبلوماسيين الليبيين الذين انشقوا أيام الثورة التي كسَّرت "القائد" كله. الكتاب متعة بمقدار ما هو مشقة. انه فريد من نوعه في المكتبة العربية، لأنه أول شهادة أدبية تحيط إحاطة وافية وراقية بـأشخاص مقربين يكوِّنون عالم دكتاتور عربي. فلم نشهد مثيلا له مع أيٍ من عوالم رجال عشيرة الدكتاتورية العربية.ان المؤلفات الحية نتاج "ضرورات داخلية" لدى الكتَّاب. هي تلك الأعمال الخالية من أهداف خارجية، علمية أو فكرية. انها لا تسعى الى تقديم معلومات أو عرض أفكار، ولا تستهدف الوصول الى تحليلات واستنتاجات، أو رؤى وأحكام، ولا الكشف عن فضائح. وكل هذه الأشياء مهمة، مهمة بحيث أنهاهي التي تسوِّغ تأليف كتاب، أو تقديم شهادة، في السياسة أو المذكرات. وجميع هذه الأشياء موجودة وجودا كثيفا في كتاب شلقم. لكن الأهم منها جميعا هو ان الكتاب "ذاتي"، بمعنى أنه انبثق تعبيرا عن حاجة أو ضرورة داخلية ملحة لدى المؤلف. كما تخرج صرخة بعد طول اختناق، أو كما تأتي انفراجةٌ في أعقاب شدَّة، أو تشرق حرية من أعماق عبودية معتمة. انه اول الثمرات الفكرية للثورة الليبة. أو الانفجار الليبي. وهو يملؤك بالشعور بأن حدثا صحيا عظيما قد وقع، وان شعبا قد خرج من طور الموت حيا الى الى أطوار الحياة حرا.ان جميع هؤلاء الـ" أشخاص حول القذافي" يُستعادون بصور قلمية رشيقة، ويخضعون لفحص دؤوب ودقيق وعادل. و"العدالة" مهمة للغاية في هذه الأحوال، لأنها الفارق الحاسم بين الكاتب الكبير وبين الكاتب الصغير، بين طالب القانون وطالب الثأر، بين البنَّاء والهدَّام، وبين الانسان والوحش. وقد تمتع شلقم بحس عدالة جعله باحثا عن الحسنة قبل السيئة في الأشخاص، والمعلومة قبل الفكرة، والفهم قبل الإدانة. وهذا مع ان الأشخاص فرادى هم في أغلبيتهم وحوش ضارية، وان العمل مجتمعا يشكل بانوراما لمرحلة غليظة منحطة ومظلمة. ان الكاتب أداة الزمن. فاذا كان الزمن حيا أنتج الكاتب الحي والنص الحي. وان حرارة كتاب (أشخاص حول القذافي) وصدقه يحملانك على الايمان بأن ليبيا تعيش اليوم زمنا حيا، ووقتا صحيحا عامرا بالأمل. إن الأوقات الصحيحة هي أوقات الأمل. ولعن الله الذين يطفئون الأمل، فهذا العمل هو أكبر جنايات البشر. أقول ذلك لصديقي العزيز، الصحفي قيس حسن الذي أرسل الي مشكورا كتاب شلقم، مُرفِقا "ارساليته" بسؤال حزين عن أسباب غياب المؤلفات المماثلة في التجربة العراقية. وأنا مثلك اتساءل. وحين أبحث عن أجوبة أجد نفسي مخنوقا كسيرا وكأنني أفعل ذلك من داخل قبر. ليبيا جعلتني أبدأ بضحكة. والعراق جعلني أختم بلطمة. وهناك فرق.
أحاديث شفوية: "أشخاص حول القذافي"
نشر في: 4 أغسطس, 2012: 10:21 م