TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > حرف علّة:التصاوير

حرف علّة:التصاوير

نشر في: 6 أغسطس, 2012: 05:47 م

 عواد ناصر أهذا كل ما تبقّى منهم؟ عندما يكون القتلى بلا مآثر تذكر، فلا يتبقى منهم سوى تصاويرهم. تصاوير، حسب؟ أحيان كثيرة لن يتبق شيء حتى التصاوير. كلما تقدم بنا الزمن تكتسب التصاوير أبعاداً أعمق من الذكرى وأهم من العاطفة. ثمة حياة، برمتها، تكتنزها الصورة.. صورة الإنسان الراحل، الغائب، المغيّب.
في لحظة التقاط الصورة ثمة أحداث كثيرة، كبيرة أو صغيرة، وقعت بالقرب من صاحب الصورة أو بعيداً عنه: ربما باضت دجاجة في قنّها الساقط خلف الظل، أو نشبت حرب في مكان ما، لا نعرف عنها شيئاً، بل لا نسمع حتى دوي الدماء هناك، أو نزيف المواضع تحت قصف القنابل.لا شيء من هذا أو ذاك يظهر في الصورة، لأن الصورة تخفي ما ينبغي إظهاره وتظهر ما ينبغي إخفاؤه في اللحظة المختلطة: لحظة التقاط صورة.عثرت، أول ما عثرت، على صورتي: شاب بشعر أسود فاحم يسيل على صدغيه سالفان على شكل جزمتين، وفق موضة السبعينات.لم أعد أتذكر مَن التقط لي الصورة، رغم أن المصورين، محترفين كانوا أم هواة، يصبحون نجوماً شهيرين، بينما لا يعني صاحب الصورة شيئاَ يذكر.لكنني أتذكر "أحداث" تلك الصورة: كنت طالباً في المرحلة الإعدادية، وجائعاً بإفراط، وحديث عهد بالتدخين والكتب والبنات.هي أحداث لا يمكن أن تظهر في أي صورة، فألم المعدة في بطن الجائع لا يظهر في الصورة.الإفلاس لا يظهر في الصورة أيضاً، أو كم كنت بحاجة إلى سيجارة لا أملك ثمنها.أما البنات، فقد مرّت تلك البنت، مسرعة، على رصيف قريب، من دون أن تلفت لي.. وحدي التفتّ باتجاه مرورها كأنني أركض وراء عطر سحيق يركض هو الآخر منذ آلاف السنوات، ولهذا جاءت الصورة، صورتي، جانبية.. لكن الوجع في عنقي لم يظهر في الصورة وأنا ألتفت، راكضاً، وراء ذلك العطر، ولم أستجب لأوامر المصور بأن أحدّق في العدسة!ثم عثرت على صورة ابن أختي المفقود حتى اليوم ذات انتفاضة أو هبة أو "غوغاء"! كان طفلاً وسيماً وبريئاً، لم تظهر الصورة وجهه المذعور وهو يغيب إلى الأبد.صورة شقيقي وقد كفّ عن طموحاته القديمة أو أطماعه الملحة فقبع جالساً باستسلام، يرقب أحفاده من دون أن يفارقه القلق، حتى اليوم، من لحظة رعب عراقية قد تودي بأحدهم، أو أكثر، كما أودت تلك الحرب بابنه الجندي المكلف.صورة ابن عمّي الذي حاول أن يتخلى عن كونه ضحية السياسة والاستبداد والأحلام المنكسرة عبر محاولات عقيمة في أن يجعل من كل الذين حوله "ضحايا" له، كي يحقق "مساواة ما" لينجو من صورته كضحية وحيدة تركت اسمها على جدران السجن (رقم 1) - معسكر الرشيد، ثم سجن الحلة ثم سجن نقرة السلمان، ثم سجن الفضيلية ثم سجن أبو غريب، ثم سجن حفرة مجهولة إذ قتل اغتيالاً بالدعس في مدينة الصويرة.تصاويرهميا أخي، يا وطني!يا تصاوير ابن أختي وشقيقي وابن عميعند ذاك الحائط المائل نفسه،بينما البابُ، الذي طاحَ بُعيدَ الغارة الأولى، قريبٌ من ممرٍّ رطبِ المرآةِ،(والمرآةُ ما كانت كما نعهدُ في المرآةِ، فالمرآةِ شاختْ)..وحدها، كانت تصاوير شقيقي وابن أختي وابن عمّي، استقبلتنيعند ما دون تدابير الضيافةْ!يا أخي، يا وطني، أين الغلط؟استقبلتني..التصاوير فقط؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram