سرمد الطائيعامل تنظيف وحيد يكنس في ساعة مبكرة من صباح الاثنين امام احدى بوابات المنطقة الخضراء، ونحن عالقون في نقطة تفتيش رهيبة. احد عناصر السيطرة رق قلبه للعامل فحمل مكنسة (لا ادري من اين اتى بها)، وراح يعاونه في كنس الشارع. لكن العملية لم تكن كنسا ولا تنظيفا، فالرجل ينقل كتلة غبار من اليمين وينقلها الى اليسار، بلا اي قناعة بالجدوى.
الشرطي ايضا يشعر بملل ويحاول تبديد الوقت بتقليد عامل البلدية المسكين.الشرطي يرمق العامل، وقد يدرك في سره ان هناك تقاربا في الوظيفة والدور بين مديرية البلدية وجهاز الامن، فهذه تنظف الشارع من القمامة وتلك تنظف الشارع من الجريمة والعنف. كلاهما امضى "عمرا" في وظيفته ولم ينجح في بلوغ المرام. عامل البلدية غير مقتنع بإمكانية تنظيف الشارع، وشرطة السيطرات لديهم موقف مشابه لاقتناعهم بأن "الفلسفة الامنية" الراهنة للحكومة لن تنجح في محو أثر الجرائم او كبح جماحها.بعد هذا المشهد كنت مضطرا الى دخول جزء محمي بشدة داخل المنطقة الخضراء لحضور "حلقة نقاشية" واضطررت للوقوف مع مئات المراجعين بأهداف شتى، رجال اعمال باحثون عن تأشيرات سفر، طلبة يبحثون عن زمالات، مترجمون سابقون مع الجيش الامريكي يريدون لجوءا..الخ. وبين الوقوف نساء مسنات وأطفال، تسلخهم شمسنا كما يحلو لها. ولا عناصر الامن العراقي يجدون حلا لهذا التسمر الابدي تحت الشمس، ولا البعثات الاجنبية تعثر على طريقة اخرى لاستقبال المراجعين. أمة كاملة تقف حائرة في العراء!تمر بك السيارة داخل المنطقة الخضراء فتشاهد خرائب بغداد الرسمية، القصور وأنصاف القصور مبنية بفخامة بلهاء، لكنها مبان مشيدة بشكل جيد على اي حال، وبقيت مهجورة على مدى الاعوام الماضية. قصر منيف مغلف بما يشبه الحجر المقدسي، وفي مدخله انقاض تركتها الجيوش والقوافل والمواكب. يتكرر المشهد امام اكثر من مبنى في الشوارع القاحلة المدججة بالسلاح والمفزعة بطريقة الحركة داخلها. تشعر انك امام "املاك محجوزة" او شيء له صلة بـ"الأموال المجمدة" ومدن مهجورة، وفي لحظة يخيل اليك ان العراق بأسره قصة "اموال مجمدة".الساسة لا يجدون فائدة او جدوى من حل خلافاتهم كما يبدو، فهم يشعرون ان العراق "برسم التجميد" وهذا يحول التفاهم الى مجرد مفاوضات وهمية. والنخبة تعجز حتى عن تصميم تسويات فيما بينها كي يتاح "ازدراد" اللقمة بشكل مفيد. ولم نعد نمتلك تفسيرا لعجز رؤساء الكتل مثلا، عن الجلوس مع بعض حول طاولة دردشة او حوار، ولو مرة كل سنة.والشعب في احيان كثيرة سلبي بلا مبادرة، وهو مستعد للوقوف طوابير طويلة تحت الشمس الحارقة دونما اعتراض. ومستعد للعيش في احياء تحيطها المياه الاسنة والازبال دونما اعتراض. ومستعد لانتخاب اكثر الناس انعداما في الكفاءة مرة ومرة ومرة، دونما اعادة نظر.الانجماد العراقي والوقوف في لحظة الانهيار دون زحزحة معقولة رغم كل هذه السنين والدماء والاموال، يجعلنا امة فاترة، عقلها منهك، وروحها تفتقد للالهام والتشجيع، والارحام عقيمة ولا تلد روحا يلهم الرغبة في اصلاح الحال، داخل هذه الجموع البشرية.كأن البلد يواجه قرارا صادرا من ارفع الجهات، يقضي بإبقائه حتى اشعار آخر مجرد "مال مجمد"، والجمود الذي نعيشه دون تغيير اساسي في الحال، لم يتعرض الى التذويب رغم كل سخونة الموت والعنف التي احاطتنا. بل ان جمود حياتنا وشلل تنميتنا وبطء العجلة شبه المتوقفة لمسارات الامور، توحي إليك بأن درجة الحرارة الفائقة التي نشوى بها كل صيف، هي نتاج درجة بلاهة الاوهام السياسية ووقاحتها.الجميع يبدون وكأنهم في حالة انتظار غامضة، لشيء غامض لا يجيء. الشلل الذي نعيشه حتى الانجماد اضاع ملامح ازمتنا ومشاكلنا، وجعلنا نبتعد عن "صلب الموضوع" لنناقش مشاكل مثل "ماذا ينوي العرعور"، وماذا يجري في فيشخابور (قرب ناحية زمار)، وتبقى اقدامنا غائصة في مياه آسنة، هاتفين ضد اوغلو وأمير قطر! انه داء لا تنظفه مكنسة المنطقة الخضراء لأمة واقفة بحيرة في العراء.
عالم آخر: مكنسة المنطقة الخضراء
نشر في: 6 أغسطس, 2012: 09:32 م