علي حسين نشرت الكاتبة الكبيرة لطفية الدليمي على مدونتها في الفيسبوك، نداء يطالبنا جميعا بالوقوف ضد محاولة بعض القوى السياسية نسف أسس الدولة المدنية التي قام عليها العراق منذ بداية الحكم الملكي، وقالت في تعليقها على عمودي الثامن ليوم أمس: "تعيين فقهاء من الطائفتين في المحكمة الاتحادية نسف للديمقراطية والدولة المدنية وترسيخ دولة دينية بالتدريج: دولة الأمر بالمعروف". بالتأكيد أن الكثير من المثقفين يشعرون بالأسى والحسرة لما يجري اليوم..
فمن كان يصدق أن الحال تصل بالبلاد إلى أن يطالب بعض الساسة بفرض نظام "الكوتا" الطائفية حتى على الطيارين الذين يرسلون في بعثات للتدريب. من يقرأ تاريخ العراق جيدا تدهشه قدرة الملك فيصل الأول على فهم طبيعة هذا المجتمع، ففي العام 1917 وقبل أن يصبح ملكا على العراق يبعث برسالته الشهيرة إلى عدد من الشخصيات السياسية ألمعروفه آنذاك ليسألهم عن نوع الدولة التي يريدها اهل العراق؟ وكان سؤاله واضحا هل الناس متحمسة لدولة يقودها نظام برلماني مدني، أم إلى دولة يحكمها ملك من خلال الشريعة الإسلامية؟ ويفاجئنا الجواب الذي اتفق عليه معظم الساسة آنذاك، وهو ان الجميع متفقون على إقامة دولة مدنية قوامها المساواة والعدل بين جميع الطوائف.كان هذا سنة 1917، كان العراق آنذاك نموذجا للدولة المقبلة على الحرية، نوابه ووزراؤه من نخبة الناس، عاصمته تزدهر فيها الثقافات والتجارة والمدارس وتبنى فيه الجامعات، كان هذا عراق العشرينيات حين وضع العراقيون على اختلاف دياناتهم عقدا اجتماعيا فيما بينهم يحقق مصالح الجميع ويدافع عنه الجميع، فلماذا غابت اليوم هذه القيم التي بنيت على اساسها الدولة العراقية، لتجد الناس أنفسها في مواجهة ساسة يتاجرون باسم الطائفة والدين، ويكسب البعض منها ثروات طائلة، بينما تعاني الأغلبية من الإهمال والعوز.؟ بعد تسع سنوات من اللغو والخطابات التي انتهت صلاحيتها نجد أنفسنا وسط سياسيين يسعون لإغراق حياتنا بكل ما هو مزيف يأخذونا في دهاليز الاختيار بين العمل على تطوير مؤسسات الدولة، أم إصدار تشريع يمنح فقهاء المحكمة الاتحادية حق الفيتو على كل قرار تتخذه مؤسسات الدولة؟ تندلع الأسئلة مجددا مع الاشتباك الدائر حاليا حول تراجع مستوى التنمية والتعليم والصناعة والزراعة في العراق، هل نهتم بتحديث المجتمع وتطوير قدرات العاملين في مؤسسات الدولة، أم ننتظر ما تقرره لجنة الفقهاء التي يريد لها البعض أن تهيمن على البلاد. مضحك ومثير للسخرية أن يتصور البعض من المسؤولين أنهم ينتمون إلى جماعات تتلقى أوامرها من السماء، وليست أحزابا سياسية تدين بوجودها لأصوات الناخبين، ومثير للأسى أن تستخدم هذه القرارات للتغطية على نهب أموال الدولة وانتشار المحسوبية والرشوة.المؤكد أن العراقيين شعب متدين، ويتمنون أن تتحقق كل مقاصد الشريعة الإسلامية، لكن غالبية المواطنين لن تحاسب مجلس النواب أو رئيس الوزراء على تطبيقه الشريعة أم لا.. ستحاسبهم على توفير الخدمات والأمن وتطوير قطاع التعليم والصحة وبناء المستشفيات والمدارس ومعالجة أزمة السكن والبطالة.لعل الدين بالنسبة لمعظم الناس هو الحلم بالأمان، والحصول على عمل والعيش في مكان يليق بالبشر.. هو الحفاظ على أموال الدولة ومحاسبة المفسدين وإشاعة روح التسامح ونبذ الفرقة واحترام آدمية الإنسان، اما قضايا مثل الحشمة وارتداء الحجاب وتشريعات تقوض أسس الدولة المدنية، فربما قد تستهوي البسطاء في أول الأمر، لكنها لن تصمد امام الفقر والحاجة وغياب الأمن وانتشار المحسوبية والفساد. سيتهمني البعض بالانحياز للأتراك.. وسأقول بعيدا عن سياسات تركيا الخارجية، فانا معجب بالتجربة التركية خصوصا أن المسؤولين عليها ينتمون مثل سياسيينا الى حزب ديني، ولعلي اردد في كل مرة مقولة اردوغان الشهيرة حين سأله احد المواطنين عن تطبيق الشريعة فأجابه: "دعنا أولا ننتهي من مشاكل الصرف الصحي والبطالة والتضخم وبقية المشاكل وبعدها سيكون لنا حديث عن الشريعة". إن حل المشكلات الحياتية وتحسين أحوال الناس والقضاء على الفساد والاعتماد على أهل الكفاءة والخبرة، هو أفضل تطبيق للشريعة الإسلامية، وليس تعيين فقهاء في المحكمة الاتحادية وتشكيل لجان لمحاسبة الناس على تصرفاتهم، شعارات السياسيين عن الحشمة والفضيلة لا تكفي لتهدئة خوف الناس من غياب الأمن، ولا تسد رمق آلاف الأسر التي تعيش تحت خط الفقر، ولا تنشئ مدارس ولا تبني مستشفيات ولا تحل مشكلة بلاد تسرق ثرواتها في وضح النهار.الناس لا تريد محاكم تفتيش، الناس تريد ان تتحسن حياتها، وان تتأكد من أن هناك أملاً في المستقبل.
العمود الثامن:فـي انتظار دولة الفقهاء!
نشر في: 7 أغسطس, 2012: 10:10 م