لطفية الدليمي 2 يقول الكاتب النمساوي (كارل كراوس): عندما تنخفض شمس الثقافة عند مستوى الأفق، تصبح للأقزام - ظلال كبيرة! كم ينطبق هذا القول على واقعنا ؟ وما أكثر زحام الظلال في الواقع الثقافي المخرب؟ فبعض الظلال تهيمن على مفاصل الحياة الثقافية ومنها فئة مشبعة بنزعات عنفية طائفية أو شوفينية ومن هذه الظلال الضحلة يأتي الأذى للثقافة والمثقفين وبأيدي هؤلاء تبتكر معوقات الإنتاج الثقافي الرفيع والتنمية الثقافية بمبررات مختلفة في مقدمتها شعار الحفاظ على خصوصية البلد القومية والدينية والطائفية.
دأبت القوى والأحزاب الحاكمة سابقا وراهنا – على توظيف جميع فروع الثقافة لايدلوجيتها فتطوّعها لمصالحها الحزبية دون اعتبار لمصلحة الوطن حتى تسطح النتاج الثقافي ووصل حضيض الإسفاف في ترويجه للايدولوجيا الفئة الحاكمة، وهذه السلطة التي ترى العالم بلون واحد لقصور في ثقافتها ووعيها تغض النظر عن تجاوزات أعضاء الجماعات المسلحة في تصديهم للحريات العامة والمؤسسات الثقافية وتتيح لهم مصادرة الحريات الشخصية المكفولة بالدستور والإعلان العالمي لحقوق الإنسان كما تسمح لهؤلاء الذين يمثلون أذرعها الخفية - أن يمنعوا الأنشطة الثقافية والفنية بذرائع تنتهك الدستور والمواثيق الدولية، إضافة إلى عدم اعتراف السلطة عمليا بالتعددية الثقافية وتجاهل حقيقة أن ازدهار البلد الثقافي هو الداعم للتجربة الديمقراطية والضامن للتنمية البشرية. لا تنفصل التنمية الثقافية عن التنمية الاقتصادية والاجتماعية وترتبط ارتباطا جذريا بالتخطيط العام لمشاريع الدولة في مجال التربية والتعليم والاهتمام بالمناهج المتطورة الخالية من شوائب التعصب ورفض الآخر وإقصائه، فقد ورد في مقدمة إعلان اليونسكو للتنوع الثقافي (إن الثقافة تحتل مكان الصدارة في المناقشات المعاصرة بشأن الهوية والتلاحم الاجتماعي وتنمية اقتصاد قائم على المعرفة) فهل لدينا اقتصاد قائم على المعرفة بخاصة في ما يخص الاستثمار في الثقافة؟ أشك في أن المعنيين الرسميين بالثقافة يهتمون بالتنمية الثقافية القائمة على المعرفة بل إنهم يتجاهلون كون الثقافة هي الجزء الأهم في مساعي التنمية البشرية ورغم ثقافة الاستهلاك آمنت الدول الديمقراطية - بأن التقدم العلمي والاقتصادي والتقني لا يمكن أن ينجح ما لم يوازيه تقدم على مستوى السلام والأمن المجتمعي والعلاقات الإنسانية والتطور الثقافي وان أزمة العالم الراهن هي في اساسها أزمة ثقافية تتجلى بوضوح في الصراع بين ثقافة التشدد وثقافة التسامح. لو تفحصنا برامج الأحزاب والكتل المتصارعة على السلطة فإننا لا نعثر على مشاريع للتنمية الثقافية أو اعتماد اقتصاد قائم على المعرفة فلم تضع تلك البرامج في اعتبارها ما يطمئن الطموحات الثقافية للمجتمع ولم تشـرِ إلى الاستثمار المستقبلي في الثقافة بل أوردت عبارات إنشائية عائمة وغامضة عن الاهتمام بالثقافة وحماية التراث ونسمع في تصريحات السياسيين المتنافسين على السلطة تصريحات عن كل شيء باستثناء الثقافة والتنمية الثقافية. لا بد للإنسان لكي يحقق إنسانيته وليهدئ مخاوفه- من ممارسة الفن والإبداع فمنذ أن اخترع إنسان ما بين النهرين الكتابة على الطين تغيّر مصير البشرية وارتقى الإنسان بالثقافة التي ابتكرها وما عاد شبيها بالحيوان الذي ينشغل بالضرورات الأولية من غذاء ومأوى وأصبحت ممارسة الإنسان للفن وتذوقه –أدبا وغناء وموسيقى ورقصا ورسما ونحتا – بمثابة قوة تحفز قواه الروحية والفكرية والعاطفية وتبرهن على حريته فيحقق بالثقافة تنمية ذاته ومجتمعه ولأن الأنظمة الاستبدادية تدرك هذه الحقيقة فهي تعمد - إلى حرمانه من الضرورات الأولية لتحاصره بالعوز وانعدام الخدمات الأساسية والأزمات المفتعلة لتحول بينه وبين الانصراف للإبداع والنتاج الفكري ولتضمن تبعيته لا كمواطن له حقوق المواطنة بل كواحد من رعيتها المدجنين.( يتبع)
قناديل:خراب الثقافة وأزمة التنمية الثقافية
نشر في: 11 أغسطس, 2012: 06:34 م