د. امل بورتر في أوائل الستينات وأنا في مرحلة دراسة الفن وفي زيارة أخي طالب الطب في فيينا تعرفت على أعمال كلمت. لعبت الصدفة دورها ،عند دخولي إحدى القاعات في جامعة فيينا استوقفني سقف مزوق ومرسوم عليه لوحات لكلمت أثارت في الفضول ،
ووجدت ملصقا صغيرا يصور لوحة القبلة لنفس الفنان، حينها صعب علي فهمها وحتى تقبلها خاصة وانه كان قد صنف ضمن فترة( ارت نوفو) وهذه مرحلة من الفن التشكيلي لم تلق اهتماما كبيرا في منهاجنا الدراسي في بغداد كبقية المراحل الفنية الأخرى، وفي فيينا حاولت تتبع لوحات هذا الرسام ولم استطع هضم أعماله بشكل مجرد وحيادي، ولكن الهيبة من قوة التخطيط وتنوع اختيار وغنى الألوان بهرتني تماما. واستيعاب الفكرة والموضوع كان صعبا للغاية ولم أجد مبررا لهذا النوع من التصوير الإنشائي أما المحتوى الاستفزازي ، وخاصة في توظيف الأنثى. الأنثى في أعماله كانت لغزا محيرا بالنسبة لي، وعلى ما اعتدت عليه من قوانين تتحكم بالفن وبي على الأكثر! فهذه الحرية المتناهية والغريبة في استخدام المرأة كتعبير ومضمون ومع كل هذا التجريد في المحتوى وبكل تلك الخطوط الكلاسيكية القوية بل والقاسية، وتلك الزخارف واستعمالاتها بكرم متناه كلها تنازعتني، ولا أنكر أنها اقترنت بالدهشة المستترة والإعجاب الخفي وان قراءته بشكل جاد حينها بدت لي صعبة ومتعبة، لذا فالهروب من مواجهة وتدقيق وتفحص أعمال كلمت وبالتالي إيقاف التفكير به كان هو القرار الأكثر حكمة. والآن أعود الى لقاء كلمت وللأيام حكمها، وأنا الآن في قرن آخر وعمر وزمن آخرين. أعود الى فتح بوابة الفكر والذكريات ويطل منها شامخا شاخصا واقفا مزهوا بين نسائه، إذ دخلت بناية السيسشن علماً انه احد مؤسسي (جماعة السيسشن)، إن خوفي من أن أرى كلمت مع نسائه وكيفية توظيفهن جعلني أن أضعه بين طيات النسيان وبعد تشخيص ذلك السبب قررت إعادة مواجهة نفسي وان أعود لقراءته وبدأت أناقش موقفي، ربما سأراه اقرب إلى رؤيته هو لذاته لا كما يقرأه نقاد الفن في أواسط الخمسينات. أحس به الآن يتجسد أمامي مع ( اميليا فلوج) في إجازتهما معا، وعلاقتهما التي بقيت علاقة الند للند، صداقة بحتة وها هو الآن يقرأ معي ومعنا ( اميليا) ما قد رسمه بوعي وإدراك ولكن لعب فيه اللاوعي الدور الأكبر. استطاع كلمت أن يدرس الرسم وهو ابن بيئة متواضعة ،في الوقت الذي كانت تلك الدراسة غالبا للطبقة المتوسطة والعليا، درس الرسم دراسة أكاديمية صرفة، لم يكن ثائرا استفزازيا أو مجددا خلال دراسته، بل كان طالبا مجدا يراعي أصول الرسم الكلاسيكي، تعلم الرسم حسب القواعد المتبعة من دون اعتراض منه على مجرى الدراسة او أسلوب التدريس، ما جعله يكسب اكبر قدر من الكفاءة والقدرة ليصبح رساما متمكنا وشهيرا ورغم تواضع بيئته الاجتماعية ولكن تملكته أفكار شامخة وآمال كبيرة يصبو إليها وتمكن من تحقيقها.أطلع كلمت كما يدل أسلوبه على فنون الشرق عامة، واضح في معظم أعماله تأثره بالفن الفرعوني واليوناني وفنون الشرق عامة منها الهندية و المنمنات الفارسية والفن الصيني، نرى في أعماله الألوان الشرقية الزرقاء والخضراء والبرتقالية ، ألوان براقة تقتحم النظر بجراءة وقوة ويطغي اللون الذهبي باستعمالاته السخية، إذ أسبغه بكرم متناهٍ في كل أعماله.لأميليا فلوج تأثير وحضور كبير في حياة كلمت فهي الصديقة وليست العشيقة ، كانت اميليا تعمل في مجال الأزياء والأقمشة ومولعة بالسجاد الشرقي، فأخذ عنها ولعها ذلك، فمعظم لوحاته قطعة منثورة بالزخارف والمنمنمات، ومن خلال مراسلاتهما اليومية نرى شغفا وإعجابا وتعلقا واضحا، ولكنه تعلق الدارس بمريده ومصدر إلهامه، رغم بقائهما لفترات طويلة سوية يقال لم تحدث علاقة حميمية جسدية ربما لان كلمت كان لديه عالم واسع من النساء وكان بحاجة الى اميليا لإشباع حاجة غير حسية ملموسة، وبقيا على خط الحياد ولم يتخطياه ،فكانت هي الناصحة والمشجعة وأمينة أسراره وهو المتلقي الذي يركن إلى رأيها ويقبل نصائحها ويطربه تشجيعها. لا بد الآن من قراءة كلمت ضمن إطار مجتمعه، ففي الوقت الذي كانت فيه الإمبراطورية النمساوية تنعم برخاء نسبي وبتعدد القوميات المعترف بها رسميا وباللغات الستة الرسمية للدولة والتآلف الاجتماعي والقبول بالآخر، صحب ذلك تحرر نسبي من سيطرة الكنيسة الكاثوليكية وانفتاح على الثقافات الشرقية، مما جعل أبناء الوسط البرجوازي والطبقات الارستقراطية يكسرون طوق التقاليد الموروثة ويولعون بالجنس بشكل خاص وبكل ما أتى من الشرق، واخذ المجتمع يناقش ويمارس الجنس بحرية بصراحة وعلنا، وهذا ما ينطبق على كلمت فنجد تلك الحرية والإباحة في فنه وحياته متمثلة بتصويره لجسد المرأة بمختلف أشكاله في إفريز بتهوفن، من المبالغة في الأرداف والنهود والأعضاء الجنسية والتركيز عليها، ولكن كلمت الذي يعرف خط الحياد الذي يفصله عن اميليا عرف المرأة بعدة مستويات ورسم لها في حياته عدة خطوط حياد واجتياز.كانت لأمه وأخواته مكانة خاصة عنده، كان يهابهن ويجلهن ووفر لهن مكانة سامية
جوستاف كلمت وقراءة لافريز بتهوفن
نشر في: 17 أغسطس, 2012: 05:27 م