د. نعمة العبادييعد انخراط الفن والأدب في تناول القضايا العامة ،وهموم المجتمع ظاهرة إيجابية ، وقد تناولت الكثير من المنتجات الفنية والأدبية المميزة على طول التاريخ مسائل حساسة ومهمة في حياة الشعوب والبلاد ، وساهمت في النقد البناء وبناء الوعي ،وألهبت الثورات ,وساهمت في إسقاط حكومات ، ولذلك ينسب إلى "هوليوود" فاعليتها المؤثرة في تسويق الثقافة الأمريكية وتعميم الأنموذج الأمريكي ،الأمر الذي وصل إلى شكاية أحد وزراء الخارجية الفرنسيين من هيمنتها على الثقافة الأوروبية.
خلال السنوات الثلاثة المنصرمة تتابعت مجموعة من الأعمال الدرامية وخصوصا في الموسم الرمضاني الحالي، التي بثت وتبث من قنوات خليجية وعلى رأسها (mbc) وقناة الشرقية ودبي وأبو ظبي وغيرها من القنوات الفنية.الملفت للانتباه أن هذه الأعمال الدرامية الضخمة والعالية الكلفة الإنتاجية انخرطت في مشكلات سياسية ومذهبية ودخلت في أتون معارك لا علاقة لها بها ، وهي تمارس تحريضا ممنهجا ، وتناولا منحازا لقضايا (عقائدية –فكرية- سياسية- اجتماعية ) ،في ظروف نحن بحاجة إلى التهدئة والخطاب المعتدل والكلمة الطيبة ،قول الحقيقة.أعمال درامية مثل (وداي الذئاب ، الحسن والحسين ،عمر،ساهر الليل ،فرقة ناجي عطا الله ) ،وغيرها من أعمال أخرى لم أقف على مضمونها تمارس عمليات لتزييف الوعي ،وتناولا غير موضوعي وغير مبرر لقضايا حساسة ،خصوصا ما يتعلق منها بتوجيه الاتهام إلى مجموعات دينية أو عرقية معينة ،أو إظهار مواقف سياسية متطرفة من موضوعات هي محل تداول وتأثير بين الناس.أحاول التركيز في هذا المقال على مسلسل (فرقة ناجي عطا الله ) ،فالمسلسل حظي بتغطية إعلانية مميزة قبل عرضه في شهر رمضان على قناتي (الشرقية دراما) و (mbc1) ،والذي يتصدى لبطولته نجم الكوميديا المميز (عادل إمام) ، الذي أعطى المسلسل زخما كبيرا في عدد المشاهدين نظرا للشعبية الكبيرة للنجم عادل إمام.العمل أراد أن يعطي بعدا دوليا ،فقد تم إشراك ممثلين من أكثر من بلد عربي بما فيها من العراق ،ويتحدث العمل بإيجاز عن عميد سابق في الجيش يعمل في السفارة المصرية في تل أبيب ،يقيم علاقات مميزة مع الإسرائليين تنتهي بفصله من عمله الدبلوماسي ،ويختلف مع الإسرائليين حول رصيده المالي في بنك إسرائيلي ،حيث يقرر الرجوع إلى مصر ،والبحث عن شباب تعلقوا به في حياته ،فيكون معهم فرقة لغرض سرقة البنك في إسرائيل ،وتستمر الأحداث متوالية على هذه النقطة.ليس من وظيفة المقال ممارسة النقد الفني للعمل المهم ،فهذا له مكانه الخاص رغم أهميته ،ولكن مجرد إشارة عابرة تتصل بمحور الحديث ،حيث يظهر بأدنى تأمل حشر موضوعات إلى مجرى الأحداث لا يقبلها المنطق والتسلسل الطبيعي لأحداث من أجل الحديث في موضوعات سياسية ،وبث رسائل ذات بعد تحريضي واضح ، فنقل الأحداث بفبركة غير متقنة من سوريا إلى العراق ،على أساس أن إرجاع الفرقة مع المال المسروق من مطار بغداد إلى القاهرة أسهل وأكثر أمانا ،يظهر بجلاء الموضوعات الزائدة التي تم حشرها في المسلسل.يبدأ الدخول إلى العراق بإعطاء فكرة عن التسيب الموجود في الحدود العراقية (طبعا المفروض أن الأحداث تجري في عام 2009) ، وبالانتقاص من المرحوم ستار أبو ريشة بوصفه مشروعا أمريكيا ،وبالحديث الانتقاصي من حكومة العراق ونظامه السياسي ،وإعطاء توصيفات غير موضوعية عن الرمادي والفلوجة وعدد المهجرين إلى سوريا وقضايا أخرى.تتعاظم منهجية التحريض والتشويش على ذهنية المشاهد من خلال الانتقال إلى مدينة الأعظمية ،ومما يؤسف له أن يتورط نجم عراقي محترم مثل السيد (بهجت الجبوري) ،بالقيام بدور غير لائق ولا يخدم العراقيين في هذه المرحلة ،وهو يتباكى حنينا للنظام القديم ودولة القمع ،ويصور العراق بلا مدارس ولا تعليم ،ولا شوارع ،والنخب كلها قتلت والعلماء تم تهجيرهم ،ويعطي صورة سوداوية لم تنافسه قنوات الجزيرة والعربية والشرقية والرافدين عليها.يتم نقل الأحداث إلى شخصية عراقية غريبة الأطوار باسم (أستاذ ستوري) ،وترسم لهذه الشخصية هالة غريبة للقدرة والتصرف ،وهي تعكس أنموذجا من الانحطاط للفرد العراقي بحيث يبيع آثار بلده ،ويعيدها إلى أهلها (الأسطورة البطل المصري).حاول المسلسل ،أن يبرر بمهارة عالية عمل المدافعين عن علاقات حميمية مع إسرائيل والمطالبين بموقف المقاطعة ،وفي كل هذا تظهر مصر أم الدنيا وأبناؤها أبطال العروبة والتحرير ،بينما يظهر الانتقاص واضحا من حزب الله الذي يصور على انه منظمة مغفلة للوهلة الأولى وانتهازية في المرة الثانية ،وهكذا الأمر في سوريا ،وأخيرا في العراق ،الذي ينشغل المسلسل في رسم صورة قبيحة ومنفرة عنه ،ومجانبة للموضوعية .المشاهد اللبيب يستطيع التقاط الجمل المسمومة التي يتم بثها في الحديث عبر السخرية ،أو مجريات الحديث ،وهي تكرس الصورة المنحرفة التي دأبت الحكومات العربية على تسويقها إلى شعوبها ،بحيث صار الناس يشكون بوجود الحياة في العراق.أنا لست من المهوسين بالوطنية الفارغة ،ومن المدافعين والمشجعين للنقد والمراجعة والتصويب ،ولكني أفرق بين منهج النقد الموضوعي والتحريض العدواني المقصود. وأتساءل بمرارة :أين الأعمال العربية من مآثر العراقيين وبطولاتهم ، وخلقهم الرفيع ، وصبرهم ،والمحن التي مرت بهم قبل عشرات السنين ؟ ولماذا لم يتحدث الفن العربي والعالمي عن ملايين العراقيين الذين تم تشريدهم من العراق وقتلهم قبل نيسان 2003؟ ولماذا لم يمر
دراما متورّطة بالتحريض حدّ النخاع
نشر في: 24 أغسطس, 2012: 06:44 م