أحمد خلف((أدركت أنني كنت أنتظر أيضا هذه اللحظة، منذ قرابة السنة، تشبثت بقميصه بكلتا يدي ورددت له القبلة، بعاطفة كنت أحملها في أعماقي منذ زمن طويل، هاجعة أو مداراة، عاطفة كنت أحتفظ بها لبيدرو دي بالديبيا وتصبو إلى أن تعاش قبل أن ينقضي شبابي)) ص286 أنيس حبيبة روحي، الرواية –إيزابيل إللندي- منشورات المدى.
يمتلك أبطال الرواية في أدب أمريكا اللاتينية عاطفة جياشة تطيح بقلوبهم وعقولهم معاً في لحظة فاصلة من زمنهم غير الإنساني وغير الطبيعي الذي سيتحول (مع تطور أحداث الرواية) إلى زمن عاطفي تنعدم فيه الفواصل التي تشير إلى طبيعة الوقت، وهناك المناخ أيضا، فهو لا يقل عن الاحداث وأبطالها احتداماً، حدث هذا ويحدث في العديد مما قرأناه من قصص وروايات تسلمنا من خلالها ذلك الدفق الأخاذ من الأحاسيس والعواطف، ويتوقف الزمن في حالات من هذا النوع عند عبارة: (قبل أن. ينقضي شبابي). ففي هذه العبارة نلمس اصطراع تيار المشاعر التي لا تعرف التردد في احتواء الحب والهيام بالرجل الذي يمتلك سطوة الحضور القوي على المرأة العاشقة، وندرك أن معظم شخصيات إيزابيل إلليندي تعيش حالة من الحب الجياش والفرح بذلك الحب الذي يأتي بعد معاناة ونضال طويل.إيزابيل إللندي تتبوأ مكانة مرموقة بين الكاتبات والروائيات في العالم بدءاً من توني موريسون ونادين غورد يمير وهيرتا مولر، فقد قدمتا روايتها الشهيرة –بيت الأرواح- إلى القراء كروائية تمتلك صوتها الخاص والمتفرد، وإذا كانت بيت الأرواح قد نهجت فيها الكاتبة طريقة الواقعية السحرية حيث كل شيء متوقع حدوثه وان ما يجري هو حقيقة أو محض خيال، لقد تجاوزت إيزابيل في روايتها التي نحن بصدد قراءتها (أنيس حبيبة روحي) صيغة الواقعية السحرية إلى نوع من تجريبية يسيطر عليها الواقع ممتزجاً بمخيلة مدهشة، ولعل دوافع هذا التجاوز والتغيير هو إدراكها أن ثمة استهلاكاً مبالغاً فيه لهذا الاتجاه –الواقعية السحرية- الذي راح بريقه يخبو شيئاً فشيئاً شأنه في ذلك شأن أي موجة أو تيار لا مفر من تقادم الزمن عليه، وقد أصبح من الضروري البحث عن وسائل وطرائق تعبير قادرة على رفد عالمها الأثير، الذي تلمسنا جانباً من تعلقها النفسي والروحي به، نعني عالم الرواية وعالم الناس المحيطين بها وعملية التداخل الحر بين هذه العوالم الغنية بالكشوفات وملامسة الفن الحقيقي: ((لدي إحساس بأنني لا إخترع شيئاً، إنني بصورة ما أكتشف الأشياء الموجودة في بعد آخر وان هذه الأشياء موجودة أصلا وأن عملي هو أن أعثر عليها وآتي بها إلى الصفحة، لكنني لا أخترعها)) من كتاب نساء في الأدب ص83، بهذه النظرة وهذا التمازج بين الذات والموضوع بين المبدع ونظرته الخاصة إلى عالم الرواية، تعمل إلليندي على تأليف روايتها وبقية أعمالها الإبداعية.ويبدو للقارئ الممتاز أن: أنيس حبيبة روحي، تسعى إلى تبني أهداف خفية أو غايات غير مباشرة بعضها سياسي واجتماعي وآخر فني بنائي يخص حرفتها وهي سمات فردية وذاتية معروفة عن المؤلف التي أولت جانباً من الحياة في أمريكا اللاتينية اهتماماً خاصاً ينبع من عمق تجربتها الغنية .وتكاد الرواية تشير من بعيد إلى حقيقة بناء أحد أهم المدن في أمريكا اللاتينية، وهي مدينة سنتياغو عاصمة جمهورية تشيلي لكي يعمروا ويشيدوا مدينة تخصهم وعن الكيفية التي تصاعد فيها البناء وتحقيق الهدف للمكتشفين، وقد أخذت المدينة اسمها (سنتياغو) من اسم أحد القديسين الإسبان، وترتكز البؤرة المركزية للرواية على ثيمة واحدة تتشظى إلى أجزاء صغيرة، والبؤرة تلك ليست عملية بناء مدينة سنتياغو وحدها، بل تصوير مراحل الاستيطان والبحث عن موقع ملائم للموجات البشرية القادمة من إسبانيا لتستقر في التشيلي، حيث تصاعدت وتيرة البناء في مراحله الأخيرة لاكتمال الرواية، لكن تلك الموجات البشرية اضطرت إلى تقديم المزيد من الضحايا والخسائر في الأرواح والأموال حتى تمكنوا من تحقيق ذلك الهدف، كذلك تطمح الرواية إلى توضيح طريقة تبنيها إلى نهج تجريبي يتسم بمعرفة مفردات العمل الروائي من خلال تجريبها العديد من الأساليب والوسائل الفنية والجمالية المكتشفة من قبل المؤلفة بالقدر الذي تشتبك فيه الاحداث وتتقاطع حدود الحكاية الواحدة وتعاد صياغة جميع المفردات مرة أخرى، يعلن السارد عن نفسه في أكثر من موقف وحاله مثلما يفصح عن مزايا طريقته على لسان الساردة العجوز ((يجب ألا أستبق الأمور لأنني إذا ما رويت وقائع حياتي دون صرامة وانسجام فسوف أضيع في الطريق، لابد لرواية الأخبار من أن تتوالى بالتسلسل الطبيعي للأحداث، حتى لو كانت الذاكرة ركامأً مختلطاً بلا منطق، إنني أكتب ليلاً جالسة إلى منضدة عمل رود ريغو ومتدثرة بعباءه التي من فرو الالبكة)) الرواية ص9.. ترى من يروي لنا هذه الفقرة من السرد المضمر في غايته، بطلة الرواية أم المؤلفة؟ سوف نكتشف أن البطلة العجوز وهي ساردة الرواية، تروي لفتاة اسمها إيزابيل وسوف ندرك القصدية الفنية والجمالية من ذلك التداخل الأريحي بين البطلة وبين المؤلفة وتبادل الأدوار في ما بينهما، ولنا أن نتساءل كيف يمكن لبطلة الرواية أن تعلن عن معرفتها ببعض حرفيات الكتابة الروائية مالم تكن هي كاتبة أصلا، وفي فقرة أخرى من الصفحة ذاتها تقول: ((فلنبدأ من ذكريا
أنيس..حبيبة روحي لايزابيل الليندي..عوالم غنية بالكشوفات وملامسة الفن الحقيقي
نشر في: 24 أغسطس, 2012: 06:50 م