TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > تلويحة المدى: الشعراء الصعاليك الجدد

تلويحة المدى: الشعراء الصعاليك الجدد

نشر في: 24 أغسطس, 2012: 06:51 م

 شاكر لعيبيلا يتوهّم أحد أن ظاهرة وجود شعراء صعاليك تقتصر على العراق الحديث وحده. ترتبط الظاهرة بالسلوك وليس بالنصوص، وتجدها في كل مكان من العالم العربيّ، إذ التقينا مرةً في الخرطوم بشاعر صعلوك يمكن تصنيفه على الدرجة الثامنة في مقياس ريختر، حتى أن الراحل جان دمو سيقف جواره في غاية الأدب والرفعة.
في كل بلد ثمة شعراء يُصنَّفون في فئة الصعلكة، لأنهم يخرجون عن سويّة العُرْف في المقام الأول، وهم يضعون أنفسهم في الهامش الثقافي المرفوع إلى مستوى الأصل. في العراق يودّ الصعاليك تقديم الأمثلة عن غياب المعنى، بل – وهنا أصعب ما يمكن قبوله- يتقدّمون بصفتهم الصورة الوحيدة اللائقة بالشاعر، واللصيقة به. كتب أديب شاب عراقي في الصحافة المحلية يوم 16 آب 2012، بثقة كاملة: "الشاعر نزِق بطبيعة الحال وكما هو متعارف عليه، ويتعامل مع الأحداث ضمن منظوره الشخصيّ، لا من خلال رؤية واسعة تشمل جميع الجوانب، وما يحيط بها من تداعيات"، وهو لم يكتب عبارته إذا لم يكن هناك قبول واسع لصورة الشاعر الناقصة هذه في الثقافة العراقية. لا حاجة للتذكير بأن هذا التصوّر عن الشاعر عربيّ، عراقيّ بامتياز، وهو متأخر زمنياً. عند العرب القدامى كان الشعر رديفاً للحكمة. قبل الإسلام مُنحت الصعلكة معنى مختلفاً، مغايراً جذرياً لاستخدامها الحالي. ففي لسان العرب: "الصعلوك هو الفقير الذي لا مال له، ولا اعتماد، وقد تصعلك الرجل أي افتقر". ولقد تمرّد (الصعاليك الجاهليون) على الأعرف لأمر مختلف تماماً عن تمرُّد (شعرائنا الطليعيين): عدم إلحاقهم بأنساب القبيلة بسبب أمهاتهم الإماء (السُّليك بن السُّلة، وتأبط شراً، والشنفري)، أو خلعهم خلعاً عن قبائلهم بسبب جرائم ارتكبوها (مثل أبي الطمحان القيني) أو احترافهم الفروسية التي تقاسموا عبرها مع الفقراء ما كانوا يسلبونه (عروة بن العبسي مثالاً). وفي شعرهم أرفع المعاني وأعمقها كما هو الحال في معلقة طرفة بن العبد. في العصور العباسية كان الشطط في السلوك يصنف تقريبا في خانة الخمريات، أو في إشراقات الجنون التي تلامس الحكمة أيضاً حتى أننا نجد مصنفات عدة عن "حكماء المجانين". في العالم أجمع منذ هوميروس وفرجيل، ثم المتنبي وشكسبير وغوته وهولدرن وأليوت (بل جُلّ الشعر الإنكليزي) وسان جون بيرس وبدر شاكر السياب وإيف بونفوا... الخ اقترن الشعر بوعي معاكِس تماماً للنزَق. "شعر وحكمة صنوان" يقول هاديغير. وبين الشعر والفلسفة قِران داخليّ معقد معروف، بينما لم يكن رامبو ولا بودلير ولا من هو على طريقهما من الصعاليك إلا إذا منحنا التعبير أفقاً مجازياً عريضاً. لا وجود لهذه المفردة في اللغات الأوروبية باللوُيْنات والتاريخ العربيين.إن غياب المعنى في نصوص الصعاليك العرب المعاصرين يُراد له أن يمشي بالتوازي مع النزَق المشين، بل رديفاً "للمشين" المطروح بصفته ردّ الفعل الوحيد المناهض للعقل السويّ السليم المهيمن. وفي الحقيقة ثمة في هذا التصور شيء يُناهِض المؤسسة الثقافية التقليدية المستتبّة وليس (العقل السويّ) بشكلٍ مطلق، إذا كان لهذا التعبير من دلالة.في شروط معينة، كالأنظمة والأنساق التي تراقب الكلام واستخدامات اللغة والجسد وتعاقب على الخروج عن طريقة الاستخدام المقرّرة، كالديكتاتوريات في المدن والقبائل في الأرياف، يصير اللجوء إلى قناع (المتصعلك) و(الصوفيّ) نوعاً من الحيلة الثمينة للبقاء والتنفس والتعبير وإرادة الوجود، وليس بالضرورة انهماكاً داخلياً راسخاً بالتصوف والصعلكة. لا نظن بأن متمرداً حقيقياً يمكن أن  يمدح الطغاة، وأن متصوفاً مؤمناً بوحدة الوجود يقدر أن  يأكل أحشاء الخروف وعينيه في مطعم شعبي. لم يكن عبد الأمير الحصيري شتاماً البتة، وكان جان دمو محبّاً لأصدقائه وبه الكثير من الضعف الداخليّ. كانت به إنسانية ثرية دون أقنعة بعض صعاليك الشعر العراقي والعربي الذين يناثرون اللهب. وهنا علاقة أخرى بين الشعر والخمرة يقدِّم لها بعض الشعراء الصعاليك الجدد في العالم العربي مثالاً فريداً عرفناه جميعاً، ولا نُحسد عليه.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram