علي حسين مدهش هذا الوطن، نادرا ما تجد فيه هذه الأيام مسؤولا او سياسيا لا يسرق، او يرتشي، بل ونادرا ما تجد فيه حزبا أو تنظيما تواضع ودخل العملية السياسية من اجل الخدمة العامة، حيث تطغى المنفعة الشخصية فوق كل الخطب والشعارات.. فهناك اليوم وفرة هائلة من اللصوص والانتهازيين ومشعلي الفتن. قبل اشهر قرأت خبرا طريفا يقول إن لجنة مكافحة الفساد في باكستان أوصت بإلزام العاملين في المطار بارتداء بنطلونات من دون جيوب للقضاء على الرشوة.
وتخيلت مع نفسي، ماذا لو صدر قرار في العراق يلزم المسؤولين والسياسيين تطبيق مثل هذا الأمر.. من المؤكد ان سراقنا ومرتشينا لن يعدموا الحيل للالتفاف على مثل هكذا قرارات، وبالتالي لن يكون أمام هيئة النزاهة، اذا استطاعت ان تمارس عملها بشكل حقيقي، سوى أن تشترط على الجميع ان يمارسوا اعمالهم عرايا تماما كي تتأكد أنهم لن يجدوا مكانا ليضعوا فيه المقسوم!ما الذي يمنع أن نرفع جميعا بوجوه الساسة والمسؤولين لافته كبيرة تقول "من اين لكم هذا"؟ وأظن أن لجوء الناس إلى مثل هذا الشعار أمر منطقي للغاية في بلد لديه برلمان يقضي إجازاته في ربوع أوربا، وساسة أداروا ظهورهم للوطن. في الحقيقة مازلت امني النفس ان نمارس جميعا حقنا في الاحتجاج وان نهتف بصوت واحد ضد الطائفية السياسية، ضد سراق الوطن وان نطالب بترتيب الوضع السياسي، وان يكون شعارنا جميعا، عراق حر بلا فساد. أما مطالبنا فهي حتما مطالب ملايين العراقيين الذين يسعون إلى أن تكون الحياة الجديدة في العراق نقيضاً لسنوات القهر والتضييق التي ولدوا ليجدوا أنفسهم غارقين في دوامتها، مؤكدين أن تحقيق هذا الهدف يتطلب البحث الجيد عن البديل الذي يتعمد تقليد أساليب الحكم السلطوي، وإعادة الثقة إلى الناس. "من أين لكم كل هذا"، صوت يجب ان يرتفع عاليا مثلما صدحت به يوما فنانة الشعب عفيفة اسكندر بلغة واضحة وفاضحة: "مِنْ أين لك هذا.. هذا من فضل ربي.. مِن أين لك هذا... هذا مجهودي وتعبي... ما تُكلي من أين لك هذا."في سنوات مضت كانت كلمة "مختلس" او مرتشي حين تقترن بشخص ما فهي كافية لتضعه أسفلَ سلم التوصيف الأخلاقي في المجتمع، بل أن تهمة الاختلاس كانت تعد جريمة مخلة بالشرف ضمن مقاسات المجتمع وأخلاقياته، اليوم أصبح غير المختلس يعد جاهلا ولا يدرك أهمية الفرصة التي أتيحت له، فأصبحت الرشوة سهلة والفساد الإداري والمالي يجد من يبرره، بعض المسؤولين يتصرفون في ممتلكات الدولة كما لو كانت ممتلكاتهم الشخصية، اختفت الفوارق بين الخاص والعام ولم يعد يعرف حدود المال العام من المال الخاص، مسؤولون وسياسيون رفعوا شعار المصلحة الشخصية والتي أصبحت أهم ألف مرة من مصلحة الوطن، هؤلاء ينتشرون في كثير من الأماكن والمواقع، ويديرون الأمور بمنطق "نفعني وأنفعك" لا يتراجعون ويزدادون قوة وإصراراً.بعض المسؤولين صاروا أكثر جشعا واستغلالا للنفوذ والمحسوبية، وصاروا أكثر استعداداً للخداع والرشوة وسرقة المال العام، وتلك هي أمراض النخبة السياسية التي تفشت بسرعة. اليوم لا تعرف الناس أين تذهب المليارات التي خصصت للتنمية والإعمار. كم هي بسيطة هموم العراقيين أن يعرفوا مثلا، لماذا الموازنة 120 مليار دولار، وليس في العراق كهرباء ولا ماء صالح للشرب، ولا ضمان اجتماعي وصحي ولا شوارع نظيفة، اليوم تبحث الناس عن دولة غير محكومة بالفساد، المواطن اليوم ينتحب ويكتئب حزنا على ضياع الحلم بأيدي مجموعة من السياسيين محدودي الأفق ومتواضعي القدرة، همهم الوحيد استمرار حالة الاحتقان الطائفي لأنها في النهاية تصب ملايين ومليارات من الدولارات في أرصدتهم الخاصة. اكتب هذه الكلمات وأنا اقرأ التقرير الذي نشرته وكالة الصحافة الفرنسية عن جريمة استيراد أجهزة كشف المتفجرات، ومع أن هذا الاجهزة اثبتت فشلها على مدى الاعوام الماضية، ما زال المسؤولون مصرين على استخدامها، واتعجب كيف يعترف المفتش العام لوزارة الداخلية عقيل الطريحي من أن هذا الجهاز ساهم في هدر وسفك دم عراقي لأنه لم يكن فعالاً بالدرجة المطلوبة". في بلد اخر غير العراق، وشعب مغلوب على أمره غير هذا الشعب المسكين، لا يمكن لمسؤول عن مثل هذه المهازل الامنية ان ينام قرير العين، ولكن هذا لاينطبق على مسؤولينا.. هذا عصر يريد الجميع ان يضعه تحت إبطه، ساسة سوف تتذكرهم كتب التاريخ، بأنهم بلا ظلال سوى ظل الخديعة، بلا مواقف سوى مواقف الصفقات والمؤامرات، بلا لون سوى لون واحد، الابتزاز والانتهازية والطائفية، وسرقة ثروات البلاد تحت شعار "هذا من فضل ربي".
العمود الثامن :من أين لكم هذا؟.. هذا من فضل ربي
نشر في: 24 أغسطس, 2012: 10:07 م