 احمد المهنالا تتعايش القيم مع بعضها في انسجام على الدوام. فالرحمة قد تتعارض في حالات معينة مع العدالة. والكرم قد يتناقض مع النزاهة. ومكيافلي، الذي يوصف بأنه مفكر حاد البصيرة، نفذ الى اعماق تلك التعارضات. كما لاحظ أن بعض الفضائل قد تُدمِّر، وعلى العكس من ذلك فإن بعض الرذائل قد تُعمِّر.
ان الكرم فضيلة. ولكن ممارسته على شكل فضيلة، أي بالطريقة الصحيحة، وهي تجنب الاعلان عنه بين الناس، قد تؤدي الى ايذائك، وجعلك عرضة للإتهام بالبخل. ولكن هذه المثلبة قد لا تكون أسوأ من الكرم لدى "الأمير". فان مفخرة السخاء قد تؤدي الى استنزاف موارده الخاصة، وترغمه على مد يده الى كل عمل يكسبه المال، بما في ذلك سرقة المال العام، ليصبح نهابا وهابا. وهذه طريقة مضمونة لكراهية شعبه له واحتقاره إياه.  وكراهية واحتقار الشعب هما، حسب مكيافلي، أشد ما يجب على الأمير تجنبه.ولذلك فان "على الأمير أن لا يكترث كثيرا باشتهاره بالبخل، اذا رغب في تجنب سرقة شعبه، وسيجد الناس في تقتيره سخاء أكثر مما كانوا يظنون" عندما يرون نزاهته، وتأمينه حمايتهم، وقيامه بمشاريع مفيده لرفاههم "ويكون بذلك كريما حقا مع جميع اولئك الذين لا يأخذ منهم أموالهم وهم كثر للغاية، وشحيحا مع اولئك الذين لا يهبهم المال وهم قلة ضئيلة".هذا ما يقوله مكيافلي في كتابه "في الامارات" الذي اشتهر باسم "الأمير". وعلى هذا المنوال تعامل مع "الأخلاق"، أو القيم، في مقام السياسة أو السلطة. وكل رأي من آرائه، أو قول من أقواله، التي وصفت باللاأخلاقية، ينبغي أن يفسر بالمقياس الأرفع بنظره، وهو "مصلحة الدولة". الدولة بمعنى الحكومة والشعب والإقليم.ولعل "الغاية تبرر الوسيلة" هو أشهر أقواله. بل هو، وليس عن عبث، أشهر الأقوال على الاطلاق. وقد ورد في "الأمير" على هذا النحو:" في أعمال جميع البشر، ولاسيما الأمراء، هناك حقيقة لا استثناء فيها، وهي أن الغاية تبرر الوسيلة".هل صحيح أننا جميعا كبشر نتصرف هكذا؟ ان الجواب "الحاسم" قد يقتضي معرفة مميزة بالذات والآخر. أو ربما يقتضي شيئا أكثر تواضعا من ذلك بكثير، مثل قراءة كتيب "الأمير" هذا قراءة فهم متأنية متمهلة. وعلى أي حال فإن بعض الغايات الجليلة، مثل التحرر الوطني من الاستعمار، أو التحرر الديمقراطي من الطغيان، غالبا ما تبرر وسائل مثل الحرب أو الثورة، اللتين تسفك فيهما دماء، وينجم عنهما خراب ودمار. ورغم ذلك فإن مثل هذه الحرب أو الثورة تعتبر عادلة أو مجيدة، أو بالحد الأدنى مبررة، لأن غايتها عادلة أو مجيدة.وقلة نادرة للغاية من أعلام المسيرة الانسانية، شأن المسيح وغاندي، رفضت أن تبرر "الوسيلة"، خصوصا اذا كانت عنفا، ولو كانت الغاية جامعة لكل أطراف الفضيلة. أما مكيافلي، وهو مبتكر "فكرة حق الدولة"، فكان أول من شرّع في عالم الفكر كل الوسائل لغايات الدولة. وكان معبرا بذلك عن "حساسية جديدة" ارتبطت ببزوغ فجر الدولة القومية أو الدولة - الأمة. كان بالنسبة الى ذلك الزمن "رسول الدولة القومية". ومع تمادي السلطة في استخدام حقها حد الطغيان، ومع تطورات كبرى، ظهرت "حساسية العصر" الحالي النابعة من "فكرة حق الانسان"، وهدفها الدائم هو تشذيب حق الدولة أو الوطن لجعله متوافقا ما أمكن مع حق الانسان أو المواطن.ولعل الفرد العربي يجد مكيافلي أقرب اليه من جون ستيوارت مِل المُرجِّح لحق المواطن على حق الدولة. فلم توجد في العالم العربي بعد، كما لم توجد في ايطاليا زمن مكيافلي، دولة الشعب المستقلة الموحدة التي يمكن أن نعبر منها بسلام آمنين الى دولة المواطن. لازلنا نراوح في مواضع ما قبل المنزلتين، وبعضنا يراهما حلما والبعض الآخر كابوسا كما أن بيننا من لم تقع أنظاره عليهما أصلا.