نجم والي إلى هاشم العقابي في عموده على صفحات هذه الجريدة عبّر الصديق هاشم العقابي عن حيرته لأنه لم يجد تفسيراً منطقياً للفرمان الصدامي الذي أصدره الديكتاتور وس"ف"اح بغداد الأول في السبعينيات، والذي منع عن طريقه استخدام الألقاب منعا باتا ومهما كان شكلها. القرار ذاته عاد صدام وألغاه، ومن دون أي تفسير أيضا، كما كتب هاشم، ولكن متى احتاج ديكتاتور إلى تفسير؟ العديد من القرارات يظل معناها في قلب "الشاعر" (وليعذرني الشعراء!)، كما يحدث في أزمان الديكتاتوريات.
لكن ما فات الصديق هاشم، هو أن صداماً لم يصدر قراراً ذات يوم من دون معنى على الإطلاق. لا قبل ذلك القرار ولا بعده. وحتى في أخطائه النحوية، في حالات رفع اسم أن أو نصب اسم كان، كان أمراً مقصوداً منه. الديكتاتورية تعمل على هذا الأساس. تجرب عضلاتها هنا وهناك. وصدام عرف كيف "ياخذ بوش الشعب"، كما تندر أبي دائماً. إعدامات اليهود في عام 1969 هي خير مثال على ذلك. العرس الدمومي كان تمهيداً لأعراس دموية أخرى. ثلاثة ايام ظل المشنوقون معلقين على أعواد المشانق في ساحة التحرير في بغداد وفي ساحة أم البروم في البصرة. الجماهير "التي تبوشت" خرجت ترقص تحت الجثامين المتدلية، تأكل وتسمع أم كلثوم، قبل أن تسير مزغردة للحزب الذي سينتشر مثل الوباء يلوث فضاء العراق.منذ ذلك الحين راحت الناس تصحو كل يوم على قرار. للأسف ليست هناك إحصائية لعدد قرارات مجلس قيادة الثورة وصدام. للأسف غاب عنا ملك الفهرست أحمد فياض المفرجي، كي يعمل فهرساً لتلك القرارات. بعضها طبعاً ما يزال ساري المفعول يطل برأسه علينا من حين وآخر هذه المرة على لسان قرقوشات هذا الزمان. أليس تأسيس شرطة للآداب مثلاً هو أحد إبداعات صدام؟ أو ماذا عن تغيير الأسماء؟ تغيير أسماء المدن والشوارع والمؤسسات؟ ما أزال أتذكر الدهشة التي استحوذت عليّ ذات صباح في معسكر المحاويل، ففي ذلك اليوم لفت نظر الجندي "الباسل" المرقم 783211 نائب عريف رادار مكلف في رعيل الرادار - البطرية الرابعة - كتيبة الاستمكان الأولى، الذي هو أنا بالصدفة: نجم والي، لفت نظري، الاسم الذي خُط بخط عريض على سيارة القمامة: "حاوية المخلفات الصلبة المحلية"، ولو لم أعرف سيارة القمامة الوحيدة في المعسكر من لونها، وأنها السيارة التي - شكراً للجندي الأول المطوع عبد كشاش "أبسل" - أهرب عن طريقها أحياناً بعد ساعات التعداد الصباحي، في الأيام التي لا تكون عندي فيها واجبات، لتصورت أنها سيارة جديدة، ولكني عرفت ذلك اليوم، أن تغيير الأسماء شمل حتى القمامة. ذلك كان هدف البعثيين، تغيير كل شيء، ولم تنقصهم البراعة في ذلك، لقد صنعوا مدرسة في غسيل المخ، في محو ذاكرة الناس وجعلهم ينسون كل ما يشتركون فيه أو له علاقة بذاكرتهم الشخصية، فحتى المدن التي وُلدوا فيها تغيرت أسماؤها، فبدل العمارة راح الناس يسمعون ميسان، وبدل الناصرية عليهم أن يقولوا ذي قار، وبدل الديوانية، يقولون القادسية، وبدل السماوة، راحوا يسمعون المثنى، وبدل الكوت واسط، وبدل الرمادي الأنبار، وبدل تكريت صلاح الدين، رغم أن ما خص تكريت هو قمة التزوير. لكن لا يهم، المهم هو تثبيت ذاكرة جديدة. طبعاً ذاكرة لها علاقة بالحروب والقتال. فعلى مدى سنوات حكم البعث ستة وثلاثين عاماً، وتحت ذريعة دعوة البعثيين لتحديث البلاد وإخراجها من ظلمات الماضي، تشكلت لجأن عديدة، على طول البلاد وعرضها، لإعادة كتابة كل شيء. وهي هذه العقول التي جلست في تلك اللجان، وليس غيرها، التي صنعت في البلاد جيلين ـ حتى الآن ـ خاضعين لذاكرة جديدة، لا يعرفان حتى أسماء المدن التي وُلد فيها آباؤهم، ولم يبق الأمر في حدود المدن تلك، إنما طال كل شيء، من أسماء الدوائر الرسمية، ليصل في النهاية إلى اسم البلاد ذاتها. الجمهورية العراقية، ذلك الاسم الذي تربينا عليه تحول إلى ماض سحيق، ليحل محله الاسم الذي شاءه الديكتاتور "الفحل" صدام حسين: "جمهورية العراق". لم يتغير اسم البلاد وحسب، بل غيروا جنسها، بدل المؤنث جعلوا منها مذكراً، بالتأكيد تعبيراً عن فحولة مفقودة عند صدام.قرار منع تداول الألقاب صدر في بداية صعود البعث وعشيرة صدام. تداول الألقاب كان يعني فضيحة بالنسبة للبعث ولصدام. فوحدهم القادة الذين جلسوا في عرش السلطة حملوا اللقب ذاته. أحمد حسن البكر التكريتي، حردان التكريتي، صدام حسين التكريتي، لمجرد ذكر أمثلة بسيطة. بعدها عندما توسعت قاعدة البعث وأحكم قبضته ألغى صدام قراره بمنع استخدام الألقاب. أولاً لأن الناس اعتادت تسجيل أسماءها دون ألقاب، وثانياً، لأن صدام ذاته صفا العديد من رفاقه ومن أبناء عشيرته الضباط.طبعاً البعث وصدام صنعا مدرسة. مدرسة بالكذب والتزوير وغسيل المخ، إن ليس ببثّ الرعب في صفوف الناس. المشكلة هي أن عدداً من خريجي المدرسة هذه يجلسون على رأس العديد من اللجان اليوم!
منطقة محررة:في ما خص تغيير الأسماء والألقاب
نشر في: 28 أغسطس, 2012: 07:45 م