(2-2)د. خالد السلطاني معمار وأكاديمي ثمة متعة كبيرة يمنحها معاذ الآلوسي لقراء كتابه. وهو يتابع شؤون عمله كاستشاري للمشروع لسنوات عديدة. انه يسرد حكاياه بشفافية عالية عن شارع حيفا، الحكايا المنظورة منها والمخفية. ويصطحبنا معه في تجواله اليومي، ليعرفنا بشخوص "شارعه" وأبطاله المدعيين. وتبدو حكاياه في جانب من وقائعها غرائبية، وأحياناً خارج ..
المعقول، نظرا لبؤس وتعاسة معيشة بعض سكنة الشارع وشقائهم المرير، الذي، مع الأسف، لا احد يكترث به. (أحيل القراء إلى صفحة 203 من الكتاب، كمثال لإحدى هذه الحالات الصادمة). وهو وإن بدا مؤهلا استشاريا للمشروع المقترح، فانه ظل متوجسا من إتمام عمله بالصيغة التي يطمح إليها. ذلك لان المهمة لم تكن سهلة، ولا مجال هنا للخطأ، خصوصا الخطأ الحاصل منه تحديدا".. إن اشتراكي في تشويه محلات الأجداد، سيجعل عظامهم تتحرك في لحودهم بتربية الشيخ جنيد، التي لا تبعد عن موقع المشروع إلا قليلاً" (ص.164). لقد كتب عن شارع حيفا العديد من المهنيين والكثير من المثقفين المهتمين أيضا. فظهور شارع جديد بُبنى جديدة في نسيج حضري معين، يمتلك خصوصيته وتراثه، هو موضوع لطالما حرك مشاعر متناقضة، مثيراً اهتماما كبيراً، وسجالاً واسعا بين الناس. لكنه يبقى، في كل الأحوال، موضوعاً مؤلماً وموجعاً، لجهة حراك فعله "المدمر"، وظهور نتائج ذلك الحراك بصورة مباغتة وسريعة. ورغم إجماع عدد كبير من الناس، على أهمية فعالية التطوير والتجديد لمدنهم وأحيائهم، فقد يجد البعض فيها "ثيمة" تحتمل الرفض والنكران، وبالتالي يمكن إعادة إنتاج السجال حولها، وحول صدقية قراراتها، المفضية إلى ظهور التجديد في بيئة قديمة. إنها، في الواقع، إشكالية شائكة ومخاتلة في آن، فهي بظهورها في المشهد، تفصح عن ازدواجية المعايير والرغبات المتناقضة المكبوتة لدى كثر. فالغالبية تنزع إلى حدث التغيير والتجديد، بيد أن تلك الغالبية ذاتها وفي نفس الوقت، تلعن ذلك الحدث "كلاماً"، ولكن من دون "التفريط" بايجابيات التغيير والتجديد. وبسبب طبيعتها "المخاتلة" تلك، فقد استغل بعض المهنيين تلك الحالة، لجعل من وقائعها "مناحة" حقيقية في البكاء على الإطلال! فنحن، على سبيل المثال، ما برحنا حتى الساعة، نقرأ مقالات و"أبحاث" تصب سيلاً من "اللعنات" على رأس البارون "هوسمان"، لجهة تجرؤه على "تهديم" باريس القديمة. (وللتذكير فان البارون هوسمان 1809-1891 G-E. Haussmann ، هو الذي نفذ مشروعه الطموح في تجديد باريس وإنشاء سلسلة من الجادات "البولفارات" العريضة، في منتصف القرن التاسع عشر، بأمر من نابليون الثالث. ويقال، وللتذكير أيضاً، فان هوسمان أجرى "تفليش" حوالي 60% من البنى المبنية الباريسية وقتذاك، لتحقيق قراراته العمرانية إياها!). ولماذا الذهاب بعيداً، ونحن نمتلك، أيضاً، "ازدواجيتنا" المحلية الأثيرة. فما زال البعض منا، لحين الوقت الحاضر، يدين قرار حاكم بغداد وقائد الجيش العثماني فيها "خليل باشا" ويلعنه "لشق" في سنة 1910 شارع الرشيد الحالي. لكن هذا البعض ذاته، لا يرى غضاضة، بتاتاً، في إبداء "عشقه" للشارع والمناداة بالحفاظ عليه! والأمر ذاته، تكرر عند شق شوارع عديدة، وانسحبت تلك الازدواجية بالطبع، على شارع حيفا. وقد آن الأوان، في اعتقادي، أن يذكر باحترام وتبجيل جميع أسماء العاملين الذين ساهموا في إنشاء شارع حيفا الحالي، والاحتفاء بهم وتقديرهم، لهديتهم بغداد شارعاً معاصراً وجميلاً، وفي وقت قياسي، وضمن ظروف، معروفة للجميع، بشدة وطأتها وقساوتها و..عبثيتها! صحيح كان يمكن أن يكون العمل في شارع حيفا، أكثر مهنية، وأكثر حداثة، وان تكون القرارات المتخذة أكثر صوابية. (يلجأ معاذ لتذكيرنا في ص. 175-176، بما تم من إجراءات في تجربة تعمير ميدان بوتسدامر بلاتس/ ببرلين، التي كفلت نجاحه المهني). لكن مع هذا، فإن ما اجترحه الفريق الاستشاري، ومعاذ الآلوسي نفسه، وكذلك رفعة الجادرجي وآخرون، سيظل يعتبر عملاً، أراه، رائداً، وعلى قدر عالٍ من المهنية، اذ أضاف نكهة طازجة الى تخطيط بغداد، وانتشل نسيجها العمراني من الفوضى العارمة، التي غُرقت به منذ عقود. فضلاً على إن ظهور شارع حيفا بهيئته الجديدة والحداثية، كحدث تخطيطي هام، سيكون بمقدوره أن يؤثر ايجابياً، على أعمال تجديد البنى المبنية القديمة في أحياء أخرى في المدينة وفي العراق كافة لاحقاً. وفي هذا الصدد يكتب معاذ ".. إن هذا الفريق على علم بأن ما سيتم في شارع حيفا، سيكون مثالاً يحتذى به في تطوير المناطق المختلفة من بغداد" (ص. 225).تبقى تبعات "أطروحة" توظيف ذلك العمل سياسياً، وكيفية النأي بالنفس بعيدا، عن "تهمة" المساهمة في تمجيد الديكتاتورية عن طريق تنفيذ مشاريعها البنائية. وهي أطروحة يتعين النظر إليها مهنياً، في ضوء نتائجها (اياً تكن تلك النتائج) على النسيج الحضري البغدادي. مع الأخذ في نظر الاعتبار، بان حضور <العمارة> في المشهد (و
"نــــوستـــــــــــوس" المـــــعــــمار
نشر في: 29 أغسطس, 2012: 08:40 م