شلش العراقييقف واحد من أهم النصب التذكارية في العالم ، التي تخلد شهداء الحروب ، كئيبا واجما حزينا متربا في العاصمة بغداد ، وتحت هذه الشهقة السماوية التي صممها خيال إسماعيل فتاح الترك ، نقشت على جدران من حجر المرمر أسماء أولئك الذين قتلوا على الحدود الشرقية في حرب السنوات الثماني، النصب بكل هيبته وجماله وطاقته الروحية انفلت من بين يدي الدكتاتورية ليعبر عن نفسه لا عنها ، وفي بنية النصب وحيثياته إشارة إلى العدد المهول من شهداء الخنادق والسواتر
rn على طول حدودنا الشرقية ، لاأحد هذه الأيام معنيّ بهم أو بهذا الصرح ، حتى أولئك الذين نقشت أسماء ذويهم على جدرانه لم يكلفوا أنفسهم عناء زيارته، ليس لأننا شعب أصابه الملل من البكاء والنحيب والعويل ، بل لأننا شعب تخالطت علينا الأمور ، والتبس لدينا مفهوم الشهادة نفسه . فهو مفهوم يتحرك بمرونة وروغان استجابة لتقلبات مزاجية و عاطفية تفتقر للبعد الروحي والأخلاقي ومحكومة بالنوايا والمصالح السياسية ، لذلك تم تسريح شهداء نصب الشهيد عن مهنتهم كشهداء ومكانتهم كأبطال، لصالح ضحايا الدكتاتورية ، الذين تباع دماؤهم للأسف في سوق المزايدات القومية والدينية والطائفية وتنتهك حرمة عظامهم وجماجمهم وبقاياهم ، بشكل مروع ولا إنساني منذ سقوط الدكتاتور، في مشهد مبتذل لا يرتقي إلى أدنى شروط احترام وتوقير أرواح الضحايا وهيبة ميتتهم الدموية ووحشيتها. rnالمشكلة إذن هي التباس مفهوم الشهادة وعدم استقراره وانزياحه بشكل بالغ التعقيد عن معناه لصالح معان مبتكرة آنية ومرحلية .rnهذه المقدمة تأتي بمناسبة مرور الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد المثقف والناشط المدني هادي المهدي في ظروف جنائية( غامضة ) عشية إعداده تظاهرة تطالب بالحريات والحقوق المدنية و الوقوف بوجه الفساد الحكومي ، وباعتقادي إن هادي المهدي وعلى امتداد تاريخ العراق الجمهوري في اقل تقدير ، هو أول شهيد للحركة المدنية العراقية المستقلة حيث لم تحركه دوافع أيديولوجية أو أوامر دينية أو مذهبية أو حتى قومية ، ولا لبس في شهادته لناحية المبادئ المدنية التي انطلق منها والشعارات التي رفعها والخطوات الجريئة والمندفعة وعن دراية كاملة منه بخطورة الموقف وما يترتب عليه بموافقة صريحة على النتائج ، بإقرار خطي مكتوب ومنشور، عبّر فيه الشهيد عن رغبته المخلصة في استعداده لقبول الموت الذي توعدته به عشرات رسائل التهديد بعد فشل الاعتقال والتعنيف الجسدي في إخافته و تركيعه ، وبهذا كله ، أضحى الشهيد قربانا وطنيا خالصا تنفس الهواء النقي الجديد الذي تقترحه ثقافة الإنسان المعاصر وروحه التواقة للحرية .rnكان الشهيد صوتا شجاعا عالي النبرات ربما بسبب من الصمم الأخلاقي الذي أصاب سياسيي عصره ، ولكنه سيظل همسة الحرية الرقيقة التي يتسمعها الأحرار وموسيقاهم الخالدة التي يتردد صداها في السماوات البعيدة ، رغم فبركات أدوات السلطة ومهرّجيها ومحاولاتهم للنيل من سمعة الشهيد وطهارة قضيته وطهرانيته الوطنية . حيث رحل هادي المهدي ومازال قتلته يشبعونه قتلا وتنكيلا وتشويها بكواتم التشهير والنيل من سيرته الوطنية ، بل والخوض في حياته الخاصة كإنسان أحب الحياة بجنون الشعراء وهوس الأطفال وعفوية الأبطال . تلك الصفات الفريدة التي لا تفهمها حكومة الكواتم وطحالبها الإعلامية ، كما كشف القتلة عن ذواتهم البشعة في مواجهة الكلمة بالكاتم ، يكشف المهرجون والمروجون أبناء بؤر الفساد ذاتها عن قعر أخلاقي وفساد روحي مخيف ومقزز عندما يخوضون في حياة الشهيد الخاصة في محاولة لتبرئة الجناة الفعليين ، بعد أن تبين لهم أن رصاصتهم الغادرة هذه ليس بالإمكان تدوينها ضد مجهول ، حيث تجمعت الدلائل كلها وأشارت إلى المجرم القابع وراء الكونكريت .rnهادي المهدي ليس مناسبة للرثاء ، ولا احتفالا لمراسيم عزاء ولا لدقيقة صمت نطأطئ رؤوسنا فيها كمشهد جماعي لتأنيب الضمير، إنه النشيد الخالد والعنوان الصريح الواضح لكل مطالبنا بالحرية والحقوق المدنية، ونهاية عصر الفساد والطائفية والتزوير والجهل والأمية والخراب الهائل الذي تعيشه بلادنا .rnهادي المهدي مدرسة حقيقية لا تنتسب إلى المقولات التفخيمية التي عودتنا عليها السياسة ، مدرسة وطنية تربوية سيتعلم فيها كل أولئك الذين يتماهى لديهم مفهوم الوطن مع الحرية والكرامة .rnهادي المهدي هو الدمعة العراقية النقية التي تساقطت على نصب الشهيد في محاولة لإعادة الاعتبار لمعنى الشهادة ، ومعنى أن يكون لدينا أهم نصب للشهيد في العالم ، ودون تردد سأجعل من هذا النصب بالنسبة لي على الأقل ذكرى لهادي المهدي وكل شهداء بلدي الذين أمنوا بحرية العراق أو أولئك الذين تدافعوا لحمايته ، سأتخذ منه مزارا مقدسا أمشي إليه ، وكعبة للدمع والأمل أصلي نحوها ، وسأعلم الأجيال أن ترشها بالورد كل صباح ، وسأكتب على صخرة الأيام ، هنا يرقد هادي المهدي ،،هل لديكم ما يمنع ذلك ؟ لا يهم !! بلدي وأنا حر أيها الأوباش.rn
هــــــــادي المهـــــــدي أول الشـــهــــداء
نشر في: 5 سبتمبر, 2012: 06:30 م