احمد خلفيضعنا إسماعيل كادريه أمام قضيتين بارزتين، كافح من اجلهما المبدع والأديب في العالم، وضحى الكثير منهم ومن السياسيين والمفكرين بحياتهم من اجل تحقيقهما على صعيد الواقع اليومي، ألا وهما مسألتا العدالة الاجتماعية والحرية الفردية، ويخيل الينا ان معظم الأدباء والفنانين يكافحون من اجل تلك الشواطئ التي ترفل بنعيم الحرية ونسائمها، ولقد كان الصراع دفاعاً عنهما قد بلغ أشده في مرحلة الستينيات من القرن العشرين،
rnوصدرت عشرات المؤلفات والبحوث والدراسات المعمقة، تحليلاً وتفسيراً لمعنى أن يمتلك المرء حريثه، أي أن يكون صاحب قراره الخاص بتقرير مصيره، وينطبق هذا أكثر على المبدعين وإبداعهم، الذي تحترمه وتقدسه البشرية والعالم التقدمي والإنساني الحر، وضمن هذا السياق تبرز قضية العدالة الاجتماعية ودعوة النظر في قضايا المصير بعين منصفة، ولعل ما يفوق هذا كله هو ما يدعو إليه العالم أجمع، من حرية التعبير عن المعتقدات والآراء الشخصية وحرية الفن والأدب واختيار الحياة المثلى للفرد، والكاتب والروائي الألباني اسماعيل كادريه لا يخوض في مضمار الحرية وعملية البحث عنها عبر سلسلة مقالات ودراسات تبحث في معناها، بل يقدم لنا ذلك كله عبر نص مفتوح، تتلاشى فيه التراتبيات المعروفة في صياغة النص القصصي والروائي وكذلك تنعدم فيه معظم ما تم التعارف عليه من سياقات سردية، وهو يخوض غمار تجربة تشير إلى موقف السياسي والجمالي، متجاوزاً في عمله هذا كل قواعد الملحمة الأرسطية، انه نص مفتوح اسماه: (اتحاد الأدباء بعين امرأة) ضمن كتاب – قصص مختارة من الأدب الحديث- ترجمة د.محمد درويش، ويبدو العنوان غريباً وطويلاً ايضاً، وعلينا ان نعرف من هي المرأة التي يشير اليها العنوان، أنها مارغريتا، السيدة الجميلة، الارستقراطية السلوك والتصرف، كذلك هي بائعة الهوى التي تعلق بحبها قلب السارد تعلقاً جنونياً، مارغريتا هذه لا تدعو إلى منزلها الا صفوة القوم من النخبة المتنفذة في إدارة الدولة في زمن الرئيس أنور خوجا في جمهورية ألبانيا.. فمن هي مارغريتا ثانية؟.. إنها السيدة التي يصفها لنا السارد مقارنة مع حشد النساء اللواتي تعرف عليهن ومن انحدارات وجنسيات مختلفة: ((... كان جسدها ولا يزال أروع من أجساد الفتيات الهنغاريات والروسيات واللتوانيات وحتى اليهوديات اللواتي أقام جيلنا علاقات معهن، كانت مارغريتا تنتمي إلى كوكب آخر وكان الحلم بها يعني عبور هاوية سحيقة)).. ص539. ندرك من وصفه الأخير لها، انها تمتلك سطوة ساحرة على كل من يلتقيها أو يتعرف عليها لان لها من الجمال ما يصرع الجبابرة العتاة.. في هذا النص الجريء والصريح يتبادل المؤلف والسارد، الدور في ما بينهما لتقديم النص:rn((قررت أن اذهب لرؤية مارغريتا بكل ثمن، ويبدو أن ذلك القرار استبد بكل كياني، عقلي وأعماقي، وكلما تباطأ حماسي في احد أجزاء جسمي أجدني وقد دفعني جزء آخر إلى امام.)). ص532..rnلكنه فشل في الوصول إليها، رغم انه يبذل قصارى جهده في الوصول الى حماها فلا يستطيع الى ذلك سبيلا، وهو لا يريد الاعتراف بأن الشواطئ التي يحلم بها بعيدة المنال، حسناً والآن ما علاقة مارغريتا باتحاد الأدباء الالبان؟ بالطبع لا توجد ثمة علاقة بينهما كما يوحي عنوان النص الذي أخذ شكل قصة طويلة منفتحة على كل الإمكانات الفنية والجمالية، التي يتمتع بها كادريه، ولعل العلاقة التي تشبث بها السارد هي أن منزل مارغريتا يقع في الفضوة او مدخل الزقاق الذي يقع فيه مبنى اتحاد الادباء الألبان في العاصمة تيرانا:rn((بيد أن المؤكد هو أنني بدأت اعرف عن مارغريتا لسبب بسيط هو أن منزلها يقع في زقاق قبالة اتحاد الأدباء)).. النص ص522.. والسارد يحكي ايضاً عن علاقته باتحاد الأدباء باعتباره عضواً فيه، إضافة الى عمله في المجلة التي يصدرها الاتحاد، كذلك وجوده كأديب شاب، مقابل هذه العلاقة يسرد لنا الراوي قصة تعلقه بمارغريتا، ان السارد (وهو أديب شاب كما أشرنا انفاً). يتعرض مع بقية زملائه الى حملة نقد وتصنيف قاسية من مرؤوسيه في الاتحاد ويجد نفسه بين فكي كماشة محكمة، بين المطرقة والسندان، أي بين علاقته بالاتحاد (يتقاضى مرتباً شهرياً يديم به حياته اليومية واحتياجاته المنظورة وغير المنظورة) وبين الانعتاق من القيود التي تكبل حريته الشخصية، ويرى تلك الحرية متجسدة بحبه لمارغريتا وعالمها الذي لا يطاله او يصل اليه.. إن علاقته بالاتحاد يسيرها اثنان من شخصيات الاتحاد الفاعلة هما رئيس الاتحاد ورئيس الإدارة فيه، والسارد لا يخفي هويته وتطلعه نحو الفوز بحريته، ويحاول السارد القيام بربط عضوي بين مارغريتا كامرأة ذات سمعة سيئة وبين مسيرة الاتحاد او تعامل المشرفين عليه مع بقية الأعضاء، في الوقت الذي يرى فيه السارد، مارغريتا نموذجاً ضائعاً وسط خرائب السياسة: ((كان ثوبها الصيفي الخفيف الذي الداعر ترتديه يجعلها تبدو اصغر سناً، كانت بشرتها قاتمة وشعرها كستنائي يتدلى مقصوصاً عند مؤخرة العنف ولم يبد عليها ما يشير الى أنها كانت امرأة مبتذلة بل كانت أشبه بشخصية أنا كارنينا)).. ص532.. وهنا تتضح الصورة ويتجسد المشهد، السارد يحاول ان يكتب قصة حياة مارغريتا ممتزجة مع ما يجري من احداث اجتماعية وسياسية وهو يجدد صياغاته اللغوية، خلال رواية يكتبها عن شخصية غجرية، كما كان يحلم بتحقيق لقاء له بمارغريتا والرواية التي ينوي كتابته
إسماعيل كادريه .. محاولة البحث عن الحرية
نشر في: 5 سبتمبر, 2012: 06:34 م