لطفية الدليمي اليوم المثلج الذي فقدت فيه قفازاتي في المترو كان يوما جارحا لهويتي وكياني حتى الأعماق، خرجت من محطة المترو ووضعت يديّ في جيبيّ معطفي وسرت جوار مقبرة غرينيل بشجرها الوارف وأزاهيرها ،كان يوم ثلاثاء وهو يوم ( المارشيه ) السوق الشعبي في شارع سان تشالرز حيث تنصب الخيام والمنصات الخشبية والعربات على رصيفي الشارع، بدءاً من مساء اليوم السابق ويتوزع باعة السلع الرخيصة - صناعة هونغ كونغ والصين وكوريا -
rnمع باعة الزهور والطيور والمصنوعات الشعبية من شمال افريقيا والهند وأمريكا اللاتينية والبلدان السلافية، ومعهم باعة الأسماك واللحوم المقددة والنبيذ والاجبان الفرنسية ،وكنت التقي في السوق الأسبوعي السيدة آمال الجزائرية التي تحمل مؤهلا جامعيا في الاقتصاد لم يسعفها كمهاجرة - في الحصول على عمل فأخذت تجتهد طوال أسبوع في ابتكار وصنع الحلي اليدوية والأقراط وتعرض بضاعتها على منصة صغيرة لتعيش وسط هذا العالم التنافسي القاسي ، سألتها إن كانت تعرف محلا قريبا يبيع قفازات جيدة - فأشارت إلى محل صغير في الجهة المقابلة : واجهة عرض كلاسيكية يحجبها زحام الباعة من لبنانيين يعرضون التبولة والزيتون وشطائر الشاورما، ومكسيكيين يبيعون الباييلا و خبز التورتيلا وشطائر التاكو وشراب التاكيلا وتضج حولهم موسيقى عربية ولاتينية.rn لم أتوقع ولم افهم ذلك السلوك العنصري الذي واجهني به البائع الفرنسي الكهل وهو يتصرف بأرستقراطية متكلفة أو لعلها موروثة من طبقة منقرضة هبطت لمستوى أدنى بفعل الأزمة الاقتصادية واضطر أفرادها المتعجرفون الى العمل التجاري وبيع معاطف الفراء والملابس والقفازات المصنوعة من الجلد ، دخلت لأشتري و أشرت الى القفازات الجلدية السوداء البسيطة الطراز وقلت له بفرنسية مهذبة وبلكنة انكليزية يمقتها الفرنسيون – ولعله شعر بالاهانة من مزج لغته التي يبجلها بلكنة الانكليز: rn- بونجور ،من فضلك أريد هذين القفازين .rnولم يرد الرجل على تحيتي طبعا بل نظر إلي وهو يتفحص لكنتي الغريبة ولون بشرتي وشعري ثم أجابني بترفع وعنصرية جارحة : قفازاتي ليست للبيع ، محلي لا يبيع لأمثالكم اذهبي واشتري قفازاتك من باعة الأشياء الرخيصة في ( المارشيه ).rn صديقتي الجزائرية قالت : من حقك أن تشتكيه للبوليس لأنه تصرف بعنصرية يحظرها القانون الفرنسي ، ضحكت لأنني جوبهت بعنصرية أشد من قبل ضابطة بوليس بيضاء بدينة في دائرة إقامة الأجانب ويفترض بها ان تطبق القانون وحينها ضحكت وتذكرت شعار الثورة الفرنسية وهو ذاته شعار فرنسا ( حرية مساواة إخاء )، وضحكت من المساواة التي افتقدها يوما بعد آخر ومن الإخاء الذي يميز بين البشر حسب أعراقهم. rn لا يتوهم أحدنا ان ذاكرة الإنسان الأول قد تلاشت عبر عملية التحضر الطويلة فلم تنجح آلاف السنوات من تعاقب الحضارات أن تهزم ما يسميه العلماء ( الجين الأناني) الذي يفرض على الكائن الحي أن يضمن ويحمي حياته ونوعه حتى يتحول الأمر إلى عصبية وعنصرية متشددة ، فالإنسان لم يفقد ردة فعله البدائية التي يتشارك بها مع الحيوانات الأخرى إزاء ما هو (آخر) ومختلف، فيبدي الرفض والعداء في مواجهة الغريب وينظر إليه على انه يمثل خطرا يتهدد وجوده و نمطه الاجتماعي وثقافته لتبقى موضوعة التسامح وقبول الآخر قضية معقدة على المستوى الواقعي: النفسي والديني والاجتماعي فنجد أن معظم الشعوب تطلق اسم ( البربرية ) على ما لا يتشابه معها ومع ثقافتها في محاولة لإثبات الذات والهوية ومركزية الأنا التي تدفع بالبشر إلى تبني سلوكيات عنيفة يتشكل منها تأسيس شوفيني وعنصري وطائفي. rn
قناديل :السيد العنصري وأنا الغريبة ..من أيامي الباريسية
نشر في: 8 سبتمبر, 2012: 07:07 م