بغداد/المدىمحمد طفل صغير .. أتى من الغيب ورحل إلى الغيب .. وبين قدومهِ ورحيلهِ مسافة كأنها الحلم مشحونة بالآلام .. مسكونة بالهموم والمخاوف . كان محمد يعيش مع أمه وأبيه وأخته الصغيرة في بيت فقير مثلهُ مثل مئات الأطفال الذين يتمزقون في قبضة الفقر والحرمان .. لكنهُ كان سعيداً يخرج كل صباح مع أصدقائه .. يلعبون تحت الشمس في الحقول والبساتين ..
يتسلقون أشجار السدر لقطف ثمار ( النبق ) .. ويتصايحون ويتشاجرون لاقتسمام قطعة من الحلقوم فاز بها أحدهم مقابل مساعدة أحد العمال في حمل صناديق الفواكه إلى إحدى السيارات . ذات يوم شوهد محمد يجلس تحت شجرة السدر وحيداً حزيناً يبكي أباه الذي اعتقلتهُ قوة من الشرطة لتنفيذ أمر قبض صادر بحقهِ لارتكابهِ جريمة إرهابية . أمر الاعتقال زرع أزهار اليتم المبكر في عيون محمد وأخته كي تمر السنوات وكلاهما يعاني مرارة افتقاد الأب الذي غابَ وتوارى وراء القضبان . بينما تكافح أمهما وتصارع الحياة لتوفير لقمة العيش واحتياجات البيت . وتمر السنوات .. حتى جاء يوم الإفراج .. خرج أبوهما هاشم من السجن إلى بيت أمه التي نصحتهُ بعدم العودة إلى زوجتهِ بعد طول غياب فربما دقَ قلبها لرجل غيره أعطته جسدها بعد طول فراق وبعد وحرمان . زرعت الأم الشك في عقل ابنها فطلق زوجتهِ التي تفانت في تربية طفليها والإنفاق عليهما .. وبدلاً من الاحتفال بعودتهِ إليهم .. أقام حفل طلاق حضرتهُ أمه وإخوته الذين قرروا أخذ الطفلين عنوة من حضن أمهما ليعيشا في بيت الجدة الغاشمة ! هناك عاش الصغيران مسلسل التعذيب الدامي , فالأب ترك قلبهُ خلف الأسوار ومارس عمليات النهب والسلب ،والجدة امرأة شرسة الطباع .. حرصت منذُ الليلة الأولى في بث الخوف والرعب في قلب الحفيدين . كان محمد يختلس بعض الوقت كي يذهب لرؤية أمه يشكو إليها ماتفعلهُ بهما الجدة وكيف انهُ لا يستطيع النوم ليلاً وتداهمهُ الأحلام والرؤى المخيفة خوفاً من أن يأتي ( ضبع الجبل ) ويلتهمهُ هو وأخته الصغيرة ! . ذات ليلة كانت الأمطار تتساقط بغزارة والرياح تعصف في الخارج بشدة .. اقتربت منهما الجدة .. لتحكي لهما قصة سمعتها عندما كانت طفلة في مثل عمرهما .. في كهف كبير ومخيف كان يعيش الضبع لا احد يدري من أين أتى ولا احد رآه وهو يصطاد فريستهُ .. ولكن الجميع يقولون انهُ يعيش في جبال حمرين وقد رأوا بقايا ضحاياه وآثار جرائمهِ الكثيرة في الطريق مابين أبو صيدا والجبل .. قيل انهُ لا يموت .. وقيل انهُ لا يتأثر بالرصاص , وانهُ أتى إلى الجبل لينتقم من أهل القرية بعد أن غضب عليهم الله عز وجل ! .. وتمضي الأيام والضبع يزداد قوة وسيطرة وتزداد ضحاياه .. ويصبح والي القرية وأمير الجبل .. كانت امرأة فقيرة تعيش في القرية .. وكان لها طفل صغير في العاشرة من عمرهِ .. تركهُ لها زوجها الذي مات غرقاً في نهر ديالى .. مرض الطفل وطافت بهِ الأم على أضرحة الأولياء وباعت كل شيء تملكهُ لعلاجهِ ولكن دون جدوى .. وأخيراً قال لها احد المشايخ إن الدواء الوحيد في كهف الجبل ! . ذهبت المرأة إلى الجبل لملاقاة الضبع .. لم يصدق عندما رآها .. من الذي يتجرأ وينتهك دارهُ .. وتسيل الدماء وينتصر الضبع بعد أن افترس المرأة وارتوى من دمائها . كل ليلة تردد الجدة هذهِ الأقصوصة على أسماع الطفلين .. فبدأ يشعر محمد بأن الضبع يرمز لأبيه وأنهُ سيكون احد ضحاياه .. فقد كان يعاملهُ بقسوة شديدة .. لم يضمهُ إلى صدرهُ مرة واحدة , ولم يطبع قبلة على خدهِ , يضربهُ ليل نهار .. يطفئ السجائر في جسدهِ النحيل.. ينهرهُ ويصرخ في وجههِ على مرأى ومسمع من جدتهِ التي حرمتهُ من كل شيء حتى وجبات الطعام التي يجب أن يتناولها كبقية الأطفال ..عاش محمد مأساة دامية في بيت جدتهِ ومثلهُ عاشت أخته زهرة .. وعندما فقدَ كلاهما القدرة على احتمال الضرب والتعذيب والإهانات قرر الطفلان الذهاب إلى أمهما ليعيشا معها بعد طول عذاب ومعاناة . يوم الحادث طلب َ محمد من أبيه أن يأخذهُ مع أخته إلى بيت أمه , لكنهُ رفض وعندما بكى الطفلان وطلبا الرحيل .. جن جنون هاشم .. فدخل المطبخ وأحضر إناء بهِ ماء يغلي كان على النار وسكبهُ على الطفل المسكين وسط صراخ وعويل أخته التي تملكها الرعب فهربت تحتمي بأغطية الفراش البالية .. ولكن الجدة جذبتها من شعرها ليضربها الأب ويكيل لها اللكمات والركلات المتلاحقة . لم يكتف الأب بحرق ابنه الطفل البالغ من العمر 11 سنة بل أخذ يضربهُُ بسلك كهربائي .. بينما أحضرت الجدة عصا غليظة وانهالت بها ضرباً على جسد حفيدها حتى لفظ أنفاسه الأخيرة. هب ملَك الموت وخطف روح محمد لتصعد إلى بارئها وتبقى الجثة الهامدة ملقاة على الأرض وإلى جوارها ترقد زهرة فاقدة الوعي تعاني سكرات الخوف والموت . مات محمد مقتولاً .. قتلتهُ وحشية رجل لا ينتمي للبشر , وربما تموت زهرة ما لم تنقذها العناية الإلهية .. لكن ما حدث بعد ذلك يفوق أي خيال مريض سوداوي . نطق الصمت وتكلم الليل باكياً يسرد تفاصيل اللحظات الأخيرة .. لحظات الفجيعة التي تحول البكاء إلى بكاء عام،بكاء الناس والأشياء والأرض .. فمأساة الطفلين تعرينا وتفضحنا وتجعلنا وصمة عار في جبين الإنسانية .. عار أكبر من أن تسترهُ الثياب ومناحة الكلمات والرثاء . جلست المرأة وابنها يشربان الشاي والسجائر ويفكران كيف يتخل
قلوب قاسية لا تعرف الرحمة !!
نشر في: 9 سبتمبر, 2012: 06:19 م