نضال يوسففي القاعة المركزية لوزارة الصحة العراقية،تم جمع أطباء التدرج والممارسين يوم 29/8/2012 من أجل توزيعهم على مقاعد التخصص الطبي. " اسكتي لج، اكعدي يله، يله اسكتي لاتحجين"..بهذه الكلمات خاطب السيد "جاسب الحجامي"، المدير العام لدائرة التخطيط في الوزارة، الطبية "هند"، وعندما اعترضت على هذا الأسلوب في الكلام، أمر عناصر الأمن المسلحين بإخراجها من القاعة وهو يصرخ " اخذوها بره..اسحلوها." .."انت يمي، آني اعرف وين اشمرج، توزيعج يمي آني"..
دفعوا الدكتورة "هند" خارج القاعة، وأمرهم السيد "جاسب" بمنعها من إجراء أية مكالمة هاتفية أو استعمال الهاتف النقال للتصوير، فصادروا منها "باج الدخول" والتلفون النقال الخاص." انتو رجال؟ تقودكم بنية".." انتو مو مال احترام..ما اسمحلكم تحجون أي شيء"..وبهذه الكلمات خاطب السيد "جاسب" الأطباء عندما أبدوا تضامنهم مع زميلتهم، وحين أرادوا الخروج من القاعة لمقابلة الوزير، ادخل عليهم رجال الأمن المدججين بالسلاح يأمرونهم بالجلوس." أخاف واحد اثنين منكم يعرفله نائباً أو نائبين..آني تره اعرف مية نائب.. وكلهم علاقتي بيهم زينة والحمد لله.."وبهذه الكلمات أيضا راح السيد "جاسب" يهدد الأطباء ويؤكد سطوته..هذه الحادثة العجيبة رواها لي صديق مقرب لأحد الأطباء من الذين كانوا متواجدين في القاعة، ولم أتحمس كثيراً للموضوع في حينها، ذلك أنني فضلت للحقيقة أن تأخذ وقتها قبل الفصل في ما جرى، وفي ظني أن ما رواه الصديق يمكن أن يكون شائعة، أو حادثة مبالغ في تصويرها، أو أنها قصة تحمل من المقاصد ما يجعلها أسباب إساءة لمسؤول كبير، تدخل في خانة المناكفات السياسية التي تطفو على الساحة العراقية هذه الأيام.إلا أن الحادثة التي روت تفاصيلها الرسالة، الشكوى، التي نشرت في صحيفة النهار بتاريخ 5/9/2012، قد ألقت أضواء كاشفة على كل ماجرى، حتى تحولت الظنون إلى نوع من اليأس اخترق بقايا أمل يتأرجح في النفس.أحزنتني طريقة التجاوز على كرامة موظفة، مواطنة، تمثل شريحة متقدمة في المجتمع، وطبيبة يبدو أنها تحترم نفسها وتحترم مهنتها إلى حد المطالبة بحقوقها، في زمن أطبق الصمت على الكثيرين فتركوا حقوقهم تضيع وسط زحام المحسوبيات والفساد الإداري.وأحزنني أكثر أن بعض الوجوه الصدئة التي تفتقر إلى الأهلية الثقافية والمهنية اغتنمت فرصة تشكيل منظومة الحكومة بمعايير المحاصصة المقيتة، وامتيازات التحزب،فتصدرت واجهة أرقى المؤسسات الحكومية، وكان وجودها في تلك المواقع من الأسباب الرئيسة لشيوع مثل هذه الممارسات،وأوجدت مساحات واسعة للهيمنة والاستبداد تحت حماية الميليشيات المنفلتة. ثم راحت تلك الوجوه تعبث بقوانين الدولة وضوابط الحكومة، تتصرف حسب أهوائها الخاصة وعلى ضوء تربيتها الثقافية، ولعلها البيئية، متجاوزة على صلاحيات المواقع الوظيفية، وأصول اللياقة الاجتماعية،في التعامل مع الموقع الوظيفي نفسه ومع العاملين .إن الحادثة لا تمثل مجرد قيام مسؤول قيادي بخرق ضوابط العمل الإدارية والأخلاقية، ومثل هكذا حوادث لا تمثل تصرفا شخصيا يتخطى أصول التعامل الوظيفي فيحسب على الموظف، أنها تعكس نمط الإدارة لمنظومة الحكومة في ظل التسلق غير المشروع للمناصب الحكومية، والتي اقتضت وجود مثل هذه القيادات التي تقود الناس وتتحكم بمصالحهم، ولعلها تتحكم بمصائرهم.وإذا كانت هذه الحادثة، التي مثلها الكثير، قد وصلت أصداؤها إلى الوزير أو المسؤول عن الوزير، هل سيتم التحقيق في أسبابها ومحاسبة المقصرين فيها؟أعرف واحداً من المدراء العامين في إحدى دوائر الدولة، من رجال حزب سلطوي، قام بتهديد احد موظفيه بالقول: انه عن طريق اتصال هاتفي بسيط يستطيع إلقاءه في السجن بتهمة أربعة إرهاب!كيف يتم تصويب النظام، إذا لم يتم التحقيق في مثل هذه التجاوزات؟لماذا لا يحاسب السيد "جاسب" على سوء تصرفه، وإلى متى يبقى السيد جاسب وأمثاله بدون مساءلة وبدون عقاب.قد لا يفهم البعض أن تجاوز السيد "جاسب" على الدكتورة وزملائها الأطباء، إنما هو تجاوز على أنظمة الدولة وقوانين الحكومة، بل وعلى الحكومة نفسها، كما انه استخفاف بأبسط حقوق الإنسان، واستغلال الموقع الوظيفي لقمع الناس.لا أملك ما أقوله للدكتورة "هند" سوى لا تستغربي يا سيدتي، إننا نعيش زمن "جاسب".. وكثير من مدرائنا العامين إنما هم "جاسب"، وكثير من مؤسساتنا تدار من قبل أشخاص مثل "جاسب"..إن "جاسب" يعيش في داخل الكثيرين منا، ويفرض شروطه الملتوية على مفاصل حياتنا، ففي حياتنا الكثير من "جاسب"، بل هناك الكثيرون يعششون في داخلهم"جاسب"، وفي ثقافتهم"جاسب".. إنه زمن "جاسب".. ولابد أن نتعالى على ظواهره.. وأن نسمو فوق وجوهه.. لكنه زمن لن يدوم.. والعبرة في التأريخ القريب..
هل يحاسب جاسب؟
نشر في: 9 سبتمبر, 2012: 06:33 م