احمد المهناكان اكتشاف اليونان القديمة، ثقافتها وسياستها، حجر الأساس في النهضة الأوروبية. وكان التعرف على الترجمات العربية للفكر اليوناني في العصر الوسيط، وهو العصر الذهبي للحضارة العربية الاسلامية، وسيلة أوروبا الى ذلك الاكتشاف.
rnولعل هذا هو أهم ديون الحضارة الغربية، التي أصبحت حضارة العصر الحديث كله، الى العرب والمسلمين. فما كان للفكر الانساني النائم في أوروبا القرون الوسطى أن يستيقظ وينهض، دون أن يتابع المسيرة التي بدأها الفلاسفة الثلاثة الخالدون سقراط وافلاطون وارسطو. وعن طريق العرب تعرفت دول المدن في ايطاليا، ثم بقية أوروبا، على اولئك الفلاسفة، وانطلقت "النهضة الأوروبية" التي كانت بمثابة حركة استعادة اليونان.rnوعندما تقدمت النهضة الأوربية خطوة أكبر نحو العصر الحديث، رأى بعض المفكرين أن الصناعة أهم من الفكر في تغيير العالم. أو أن هذا على الأقل ما قال به الفيلسوف والسياسي الانجليزي فرانسيس بيكون (1561 – 1626) في كتابه الشهير (الوسيلة الجديدة). وبيكون هو أول مبشر أو منظِّر للتكنولوجيا. فقد كان العلم الطبيعي طوال التاريخ يسير منفصلا عن الصناعة. هذه تعتمد على التجربة. وذاك منعزل في التأمل. بيكون وجد ان هذا علم بلا جدوى. وتلك صناعة بلا أمل في تقدم حقيقي. وان الحل لجعل الأول مجديا والثاني متقدما، هو "تطبيق العلم على الصناعة": وهذا هو ما اصبح عليه تعريف التكنولوجيا أو الصناعة. rnبيكون هذا قال:" ان طباعة الكتاب وصنع البارود والمغناطيس ثلاثة اختراعات غيرت وجه العالم. الأول في الكتابة والتأليف، والثاني في الحروب، والثالث في الملاحة. ولا وجود لإمبراطورية أو دين أو فلسفة أو نجم كان له سيطرة اكبر أو تأثير أعظم على تطور البشرية من هذه الاختراعات". وهذه الاختراعات الثلاثة صينية. وبالتالي فهي دَيْن الحضارة الحديثة للصين. فماذا كان الأكثر أهمية للعالم الحديث: اكتشاف فلسفة اليونان أم اكتشاف صناعة الصين؟ الجواب محسوم لدى بيكون. ولكن آخرين يخالفونه ويرون الفكر أهم. rnولكن بغض النظر عن هذه المفاضلة، فإن الملفت في دورات صعود الصين وهبوطها ان هناك دائما ما يعلِّم وما يدهش في فكرها أكثر مما في صناعتها. في دورة صعودها الحالية، مثلا، طبعت سياسة الصين بفضيلة التواضع. فبعد العاصفة الماوية على الامبريالية الأميركية، عمد دينغ زياوبينغ الى التهدئة، رافعا شعار "ابق رأسك منخفضة". وكان هدفه العمل على رفعة الصين بحذر وصمت. وعندما بدأت سياسته تأتي أكلها سمت الصين هذه السياسة بـ "البزوغ السلمي". ولكن لتجنب اثارة الدول المجاورة، مثل اليابان وكوريا، سرعان ما تراجعت وغيرت التسمية الى "التنمية السلمية".rnوقد كانت لدينغ وورثته أخطاء وخطايا في حقوق الانسان وفي التبت وتايوان وتجاه سوريا اليوم، ولكن "القنينة الصغيرة"، وهذا هو معنى اسم زياوبينغ، رسخ فضيلة التواضع في سياسة البلد الذي عاد، كما كان لوقت طويل من العصرين القديم والوسيط، قوة عالمية. وهكذا فان الصين بخفض رأسها في الشعار استطاعت أن تبقي رأسها مرفوعة في الواقع. فليس في كل خفض للرأس مذلة، ولا في كل رفع للرأس كرامة. ان الكرمة هي في ما تقوله وتفعله، وليس في ما تقوله دون ان تعنيه أو تعني عكسه. ولعل النظر من هذه الزاوية يجعل الفكر، الفكر الذي هو قول وعمل، أهم من التكنولوجيا.rnوالحقيقة ان تواضع العملاق يدفع الى التساؤل عما اذا كان التاريخ سيبقي لليونان سحرا يفوق الصين في الفكر.rnrn
أحاديث شفوية:ابق رأسك منخفضة!
نشر في: 9 سبتمبر, 2012: 09:16 م