TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > أحاديث شفوية: ملامح وظلال

أحاديث شفوية: ملامح وظلال

نشر في: 12 سبتمبر, 2012: 09:55 م

 احمد المهناكان العراق على الدوام في خدمة أهواء أهل السياسة. ولم يصادف مرة واحدة أن يكون أي من تلك الأهواء متوافقا مع مصلحة العراق. ومن بين حكامه تفرد الملك المؤسس بمثل ذلك التوافق، وزاد عليه نوعا دافئا من الأبوة للوطن. ولكن فيصل الأول كان حكمةً ولم يكن هوى، وكان عقلا أكثر منه عاطفة، وكان فردا ولم يتحول الى تيار.
وعندما تسنى اول مرة لحاكم عراقي أن يصبح تيارا فانه لم يكن فوق الجميع، شأن ما كانه يوما غاندي أو تشرشل أو ديغول، وانما أصبح تيارا بين تيارات أخرى. وكان ذلك هو الزعيم عبد الكريم قاسم. فهو أول حاكم جسد تيار "العراقية"، واكتسب من خلاله صفة الزعيم الأكثر شعبية في تاريخ البلاد. ولكنه وجد نفسه على رأس تيار كان على خصومة مع تيار القومية العربية. وكان بذلك هوى بين أهواء، وطرفا بين أطراف. وهذا ما لم يكنه فيصل الأول، فقد كان والد "مشروع الأمة" عن حق. وكانت أهم مقومات أبوته تتمثل بالقدرة على ضبط أهواء أهل السياسة ورجال الجيش وتوجيهها. وبموته تحررت الأهواء من القيود، وصارت مصالحها أكبر من الوطن، وأهدافها أصغر من الوطن. ففور وفاته دخل ابنه ووريثه الملك غازي في الصراعات، وما هو أدنى منها كالمؤامرات، ولم يكن على قد هذه ولا تلك، وبدأت سيرة التراجع التي انتهت بانهيار الدولة. واليوم يبدو ذلك كله شيئا من التاريخ. فلم تعد هناك أهواء متعارضة وجامعة لجماهير ممتدة من زاخو للفاو، ولا أفكار أو قيم قادرة على شحذ العاطفة الكاسحة أو ترسيخ الحكمة البعيدة. أهواء السياسة تسممت برياح المقت الطائفي، وتقزمت من التيار الى الحزب، ومن الحزب الى المجموعة، ومن المجموعة الى الفرد. دخلنا في نوع من تنازع البقاء الدارويني. كل مجموعة تريد تقوية أو تعزيز وجودها. والفرد يريد الشيء نفسه. الغد يخيف الجميع واليوم يطمع الجميع. ومن اهواء الخوف والطمع تنامى مذهب الفساد واصبح هو التيار السائد.لم يكن العراق ميدانا لأبشع أهواء البحث عن الثروة والمكانة مثلما هو اليوم. في غمضة عين تقع تحولات في المراكز والأحوال. فاذا بصفر الخبرة وزير، وعديم التربية والتعليم مدير، ومعدم الحال أمير. والفوق غالبا قدوة التحت. واذا بالبلد ليس ضحية أهواء أهل السياسة فقط، وانما ضحية أهوائنا جميعا. ولأن ازاحة المسؤولية أرسخ من تحمل المسؤولية في ثقافتنا، فان الجميع يدفع بالبراءة عن نفسه ضد الجميع.أليس هذا هو "الموت"؟ "موت الوطنية"؟الكارثة ان معظم تاريخنا نوع من افراغ فكرة الوطنية من معناها وعاطفتها، مسخرة بها وتسفيل لها. كلمة "وطني" صارت سبة أو حيلة. المثقف على نحو ما يستهين بها. والسياسي يتلاعب بها. وليس هناك سبيل لانعاش الوطن من دون وطنية. من دون تطوير محبة هائلة للوطن. من دون أن تكون عراقيا. ولذلك ربما كان أسوأُ الأوقاتِ هذا أفضلَ الأوقات لطرح سؤال "من هو العراقي؟" وللبحث، طبعا، عن اجاباته. وقد لا تأتي أفضل هذه الأجوبة من التاريخ، حيث الحقد، وانما من الاسطورة المتجاوزة للزمن. ولعله سؤال أعمق مما نظن، لأن مداره ألغاز الكثافة الهائلة من الأشواق والأهواء والأدغال والرموز والعواطف التي تعصف وتهدأ ولكن لا تميت ولا تموت. ولكن لعل جوابه أسهل مما نظن أيضا، فقد يصح أن يكون العراقيون هم جميع اولئك الآملين بخلود العراق.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram