محسن علي الغالبي* مع ندرة ما يكتب بصورة عامة في مجالي التصميم المعماري (Architectural Design) والتخطيط الحضري (Urban Planning) K يشغل الأول حيزاً أكبر مما يشغله الثاني بشكل واضح، ويتعدى الأمر مجالات الكتابة والدراسة والتنظير إلى مجالات التدريس والممارسة العملية والتطبيق.
وهو أمر يستحق لفت الأنظار إليه، فالمبنى في كل أشكاله هو جزء وعنصر يدخل ضمن مركب أكبر وأشمل هو المدينة، والمدينة في أبسط تعريفاتها هي مجموع الأبنية المكونة لها والعلاقات والشبكات التي تربط هذه الابنية مع بعضها (بالتأكيد هناك تعريفات للمدينة أكثر شمولية وأدق من المؤمل التطرق اليها في مقالات لاحقة). وبالرغم من كون المبنى جزءاً والمدينة كلا فان الحيز الذي يشغله التخطيط الحضري أقل بقليل مما يشغله التصميم المعماري، فكل مدارسنا المعمارية تمنح التصميم مكانا أرحب من التخطيط، ويتكرر الأمر ذاته في الحياة العملية، فالدوائر والمؤسسات والمكاتب والشركات المختصة بالتصميم أوسع وأكثر كفاءة من تلك التي تعنى بالتخطيط. أما في مجالات التنظير والدراسات والأبحاث فلا بد من قبول الأمر الواقع الذي يفضح نفسه بشكل لا يقبل الشك بأن كل نظرياتنا المعاصرة والمستخدمة (في كلا مجالي التخطيط والتصميم) هي أفكار مستوردة من مدارس وبيئات ومجتمعات غالباً ما تكون بعيدة بشكل (مروع) عن واقعنا الحالي. واستخدام كلمة (مروع) هنا للفت النظر إلى مسألة الاستيراد غير المدروس ومحاولة فرضه. إن الاستيراد بحد ذاته أمراً ليس سلبياً على الدوام، فتطور الأمم مرهون بتلاقح حضاراتها مع الحضارات الأخرى، والاستيراد هو وسيلة من وسائل التلاقح هذا، ولتوضيح المقصود من هذا الأمر سأستخدم وسيلة بسيطة عادة ما تستخدم لتوضيح فكرة ما، وهي دفع هذه الفكرة إلى أقصى حالاتها المحتملة لبيان المقارنة بوضوح تام، وكمثال على ذلك أذكر نظرية توسع المدينة من خلال البناء على سطح البحر المجاور للمدينة واستغلال المساحات المائية بدل مساحات الأرض التي بدأت أكثر مدن العالم تعاني من قلتها وصعوبة استغلالها وارتفاع أسعارها وكلف البناء عليها. هناك محاولات جادة لتطبيق هذه النظرية في اليابان من قبل مخططين ومعماريين عدة أمثال ( Mitrobolism, Shimizu Co. ) وفي هولندا مثل ( Ooms ) وفي الدنمارك "هذه الدول تشترك بخصائص جغرافية مشتركة". والسؤال هنا هو أي منطق يدعو الى استيراد مثل هذه النظرية واستخدامها في بناء المدينة في العراق؟ فالمدارس التي أنتجتها لا صلة لها بكل مدارسنا المعمارية على مر العصور، والبيئات التي وضعت لها هذه النظريات لا تشابه البيئة في العراق من معظم جوانبها أن لم تكن كلها، والمجتمعات التي نشأت فيها ووضعت من أجل خدمتها لا تشاطر مجتمعنا في شيء، بالاضافة الى فروقات واختلافات أخرى شاسعة مثل التكنولوجيا المتاحة لتنفيذ مثل هذه النظريات والثقافة السائدة لتقبل مثل هذه الافكار وكذلك الحاجة لمثل هذه الحلول "قد يتضمن الامر استثناءات لضرورات أخرى كفكرة انشاء ميناء عائم قريباً من شواطئ البصرة وهو بحث آخر غير المقصود هنا". لذلك فإن استيراد مثل هذه النظريات يبدو فاقداً لفحواه ومغزاه وبعيدا عن المنطق. وينسحب الامر ذاته على استيراد نظريات اخرى أقل حدة من هذه ولكن لا تختلف كثيراً عند عرضها على المنطق لاستقراء مدى جدواها. وغالبا ما يدخل استيراد هذه النظريات من باب التطرف في التعامل مع الكثير من الامور ومن مبدأ فرض (أما، أو) أو مبدأ (الاثبات او النفي) دون اللجوء الى مبدأ التوسط في الحلول أو مفهوم الاستيراد مع التحوير "ان مفهوم التطرف أصبح معضلة تطبع مجالات حياتنا برمتها الى حد أصبح من الصعب معها تقبل أواسط الحلول وتفعيلها، ولا بد من القول هنا أنه لا توجد نظرية في الوجود (وهذا ما يفترضه المنطق) مناسبة لكل بيئة في كل عصر دون اللجوء الى تحويرها بشكل ما". وعند العودة الى موضوع بناء المدينة في العراق (وفي الشرق الاوسط على العموم) فإن النظريات السائدة حالياً في التخطيط (وهي كلها مستوردة ومن الغرب بالذات) لا تشكل البدائل المثلى لنظرية (أو نظريات) التخطيط التي كانت سائدة في هذه المنطقة لقرون عديدة واستثمرت تجارب وخبرات أجيال متعاقبة والتي هي بحد ذاتها تشكل خزينا علمياً ثرياً ليس من السهل لفظه والتخلي عنه – مع ذلك فقد تخلينا عنه بكل سهولة - والاشد من ذلك أصبحت العودة اليه تعد خطوة رجعية تراجعية قد تعرقل لحوقنا بركب الحضارات الاخرى، فأصبحنا كمن ورث كنوزاً، صعب عليه حملها، فرماها في عرض البحر، ظنا منه انها غير قابلة للاستثمار أو الصرف فأضاع بذلك جهد كل الاجيال السابقة. من الامثلة على ذلك هو استبدالنا التخطيط العضوي للمدينة ( Organic Urban Planning ) والذي انتج ولعصور متتابعة مدناً رائعة وملائمة بدرجة عالية لبيئتنا ومجتمعنا مثل المدينة القديمة في النجف وأجزاء بغداد القديمة كالكاظمية والشواكة وغيرهما، وقد استبدلناه بالتخطيط الشطرنجي ( Grid Pattern ) والذي هو نظرية مستوردة تتبنى فكرة تخص مجتمعات أخرى وثقافات أخرى، تلك النظرية التي لا يدعمها منطق مقبول بأي شكل من الأشك
بناء المدينة في العراق.. النظريات المستوردة
نشر في: 14 سبتمبر, 2012: 07:40 م
جميع التعليقات 2
هند كامل
مررتُ من هنا .. فتوحدتُ بالحروف ..
هند كامل
مررتُ من هنا .. فتوحدتُ بالحروف ..