بغداد/المدىفي عام 1972 كنت مولعاًً بمشاهدة الأفلام الأجنبية وخاصة الأفلام الأمريكية. أذكر أنني شاهدت فيلماً لم أعد أذكر اسمه، ولكن أحداثه تدور حول نقل دماغ إنسان إلى آخر. الطريف في الأمر أن الرجل الذي استخدم جسده كان أسودَ، وقد تلف دماغه بسبب ورم سرطاني، أما الدماغ الذي وُضع في ذلك الجسد، فكان دماغ رجل أبيض يعاني أمراضا عديدة، ولكن دماغه كان سليماً. الرواية كانت من قصص الخيال العلمي،
وتعالج الحالة النفسية للسود في أمريكا وكيف أوجدت العملية شخصاً يفكر بطريقة الرجل الأبيض، على الرغم من لونه الأسود وتقاطيعه الإفريقية.قبل عرض ذلك الفيلم بأقل من عشر سنين كان محظوراً على السود ركوب الحافلات التي يركبها البيض وارتياد الأماكن العامة المخصصة لهم، مما أضاف إلى مفارقات القصة أن زوجة صاحب الدماغ لم تستطع أن تتكيف مع الشكل الجديد لزوجها. .قصة ذلك الفيلم لم تكن خيالية بالكامل، فقد عُرفت تجارب علمية في هذا السياق أجريت على حيوانات منذ عام 1812 عندما افترض عالم وظائف الأعضاء الفرنسي (ليجالوا) وزميله (فولبيان) أنه إذا حُقن دماغ رأس إنسان أو حيوان مقطوع تواً بدم مشبع بالأكسيجين عبر شرايين العنق، فإن الرأس سيستمر في الإدراك والسماع والنظر والشم، ولكنه لن يستطيع الكلام أو إصدار الأصوات المعتادة (في حالة الحيوان) لأن الكلام يحتاج لحنجرة سليمة ورئتين. لم ينفذ أي منهما التجربة اللازمة لتحويل الفرضيّة إلى مرحلة التطبيق.أما الطبيب الفرنسي (براون سيكارد) فقد قام في عام 1857 بحقن رأس كلب بدم مشبع بالأكسيجين، بعد ثماني دقائق من فصله عن العنق، ولاحظ حركة- ظنها إراديّة- في العينين وعضلات الوجه بعد مضي دقيقتين أو ثلاث، واستنتج من ذلك، أن وظيفة الدماغ استمرت ولو لفترة وجيزة بعد فصل الرأس عن الجسد. أما الطبيب الفرنسي (جون بابتيست فينسينت لابورد) فقد كرر التجربة نفسها عام 1884 مستخدماً الرؤوس الآدمية المقطوفة بآلة (الجيلوتين) المستخدمة في إعدام الأشخاص؛ بعد أن تمكن من الحصول على موافقة الحكومة بالطبع. كان يضع إبر معدنية، موصلة بأجهزة كهربائية في الدماغ، من خلال ثقوب بالجمجمة، وذلك لتحفيز النشاط العصبي، ويوصل شرايين العنق بدم مشبع بالأكسيجين، للمحافظة على حيوية الدماغ، وبلغ به الأمر في إحدى تجاربه أن أوصل شرايين كلب حي بشرايين الرأس الآدمي المفصول. واجهت تجارب (لابورد) صعوبات بسبب تعذر نقل الرؤوس من المقصلة إلى مختبره بسرعة مناسبة، لضمان نجاح التجربة. من المعروف أن خلايا الدماغ تتلف وتموت خلال خمس إلى عشر دقائق، بينما كان الزمن اللازم لجلب الرؤوس من موقع المقصلة في حدود عشرين دقيقة. على الرغم من ذلك تمكن (لابورد) من إحداث تقلص في عضلات الجفنين والجبين والفك عن طريق التحفيز الكهربائي.وفي وقت لاحق أجرى الباحثان الفرنسيان (هايم وباريير) تجارب على رؤوس كلاب قطعاها بمقصلة خاصة، ثم ضخا فيها دماً مشبعاً بالأكسيجين، من كلاب وخيول حية، واستنتجا أنه ارتسمت على الرؤوس المقطوعة علامات التعجب وبدت واعية لما حولها لمدة ثلاث أو أربع ثوان.وبعد ذلك بـ 18 سنة قام طبيب فرنسي بمراقبة قتلى مقصلة باريس، وسجل في ملاحظاته أنه بمجرد أن تهوي السكين وينفصل الرأس، تختلج الجفون والشفاه لمدة خمس أو ست ثوان ثم تتوقف. كما سجل أنه عندما نادى أحد الرؤوس المفصولة باسم صاحبه بعد انغلاق العينين فتح الرأس عينيه وحدق في الطبيب، وتكرر ذلك مرتين على مدى ثوان عدة!وفي الحادي والعشرين من مايو 1908 نجح جراح يدعى (جوثري) في مدينة سانت لويس بولاية ميسوري الأمريكية، في توصيل رأس كلب إلى عنق كلب آخر، وظهرت بعض العلامات الحيوية على الرأس المزروعة في الكلب الأصلي، الذي بقي على الحياة لمدة سبع ساعات، ثم حدثت مضاعفات، فقرر الطبيب إنهاء حياتهما.وتُعتبر رؤوس الجراء التي زرعها الطبيب السوفييتي (فلاديمير ديميكوف) عام 1954 في أعناق كلاب بالغة، أول رؤوس مزروعة، تؤدي كامل وظيفتها الدماغية. زرع ديميكوف الجزء الأمامي من الجراء (الرأس والكتفين والقدمين والصدر والرئتين والمريء)، ولكن بدون القلب. عاشت الجراء متصلة بالكلاب الحاضنة، لمدة تتراوح بين يومين وستة أيام، وفي إحدى الحالات عاش جرو لمدة تسعة وعشرين يوماً. وتمكنت رؤوس الجراء المزروعة من شرب السوائل (التي كانت تنسكب من نهاية المريء إلى الخارج)، وفي إحدى الحالات عض الجرو إصبع أحد أعضاء فريق البحث فأدماه! وفي مرة أخرى تمكن الجرو المزروع من عض الكلب الحاضن خلف أذنه، ما جعل الكلب ينفض رأسه ويعوي من الألم! يُعزى موت الجراء المزروعة إلى التفاعل المناعي، فلم تكن مثبطات المناعة متوفرة في ذلك الوقت، وعليه تعاملت الكلاب الحاضنة مع الرؤوس المزروعة بوصفها أجسام غريبة، فاستخدمت جهازها المناعي لمحاربتها وطردها.وفي عام 1960 شرع طبيب جراحة الأعصاب (روبرت وايت) في إجراء تجارب تتضمن استئصال دماغ حيوان وتوصيله بالأوعية الدموية لحيوان آخر. في ذلك الوقت ظهرت عقاقير تثبيط المناعة وحُلت بذلك كثيرٌ من المشاكل المتعلقة برفض الأعضاء المزروعة، وكان (وايت) يسعى للنجاح في زرع رأس قرد، ثم يأمل بعد ذلك زرع رأس إنسان، كأن يقوم مثلاً بزرع رأس مريض بالشلل الرباعي في إنسان مات دماغه، بينما سائر جسده سليم.
القتل وزراعة الرؤوس
نشر في: 16 سبتمبر, 2012: 06:40 م